ما بعد عملية صبراتة...وشطرنج الأمم

تتسارع الأحداث من حولنا، ويثير الهدوء المريب ما يثيره لدى ذي البصيرة والفكر، في حين يكون مَثار ارتياح لدى عميان العقول، وعلى كل حال فإن الحفلة ستبدأ قريبا، وستكون في ديارنا ومن حولنا، والمسألة مسألة وقت لا غير.
الضربة الأمريكية في صبراتة بداية الطبخة الأخيرة بعد أن تم إنضاجها على نار هادئة وأمام أعين الأقمار الصناعية التي ترصد النمل الأسود في الليل المظلم. 
لماذا تم اختيار القيادات التونسية لداعش؟ ألا يكون ذلك تفعيلا للخلايا الداعشية في تونس وخلق ردات فعل قوية تجعل تونس لا تملك إلا أن تنصاع أكثر للإرادة الدولية، خاصة بعد ما قدمته مهزلة البلجيكي من براهين الهيمنة والنفاذ المخابراتي الغربي في تونس ووهن هذه الدولة الموقّرة، أو ربما قوة السحر المخابراتي حين يتم مزجه بكيمياء الخيانة والعمالة والعجز والعمى، سحر حوّل الرزقي (شاب متميز في دراسته وكان يعشق الرقص) إلى منفّذ أكبر عملية إرهابية في تونس، وسحر حوّل بائع الحلوى إلى انتحاري يقتل عددا من قوات الأمن الرئاسي على مرمى حجر من وزارة الداخلية، نفس السحر الذي جعل آلاف الشباب التونسي يتحوّلون من متميزين في دراستهم ومحبين لأوطانهم إلى دواعش، وذات السحر حوّل تونس إلى أكبر مصدّر للإرهابيين، وهو ذاته السحر الذي حوّل الأسلحة في حاوية البلجيكي إلى مجرّد لُعب....
هذا السحر ما مصدره وكيف يتمّ تفعيله...من كان لديه عقل يمكن أن يرى المشعوذين الذين يعكفون على خدمته وفي مرايا مواقعهم ومواضعهم النافذة في كل شيء وفي كل مكان...ويمكن رؤية قوة البرمجة العقلية والتخطيط المحكم الذي تجاوز فعل التآمر ونظريته إلى تطبيق المخططات بشكل دقيق ونافذ وسريع ومتسارع جدا.
الضربة الأمريكية دقيقة ولها أبعاد كثيرة، فالعقل الأمريكي عقل ذكي جدا، في مقابل عقل عربي أبله يحكم وعقول عبقرية في بئر اللامبالاة واللاقدرة. ويمكن استنتاج الكثير من خلال هذه الضربة، فالأكيد عندي أن الولايات المتحدة والناتو يعتزمون شنّ حرب كاملة على تنظيم داعش تحت أو خارج مظلة الأمم المتحدة، ولكن كما يجوز أن نقول أنها إرادة العالم المتطور المؤمن بقيم الحرية والإنسانية لتدمير الإرهاب وضرب معاقل الشر، وهذا ما سيتم الترويج له، فمن حقي أن أقول أيضا أن الضمير الدولي لو كان جادا في حربه على الإرهاب لما ترك تلك التنظيمات تتشكّل أصلا وتسيطر على كل تلك الرقعة الجغرافية سواء في سوريا والعراق أو ليبيا ونيجيريا ومالي وبقية المناطق التي توجد فيها تنظيمات أو خلايا إرهابية بما في ذلك تونس. أما حين نوغل في تفكيك منظومة العقل المدبّر في الفعل الإرهابي سنرى بوضوح وجود مستثمرين لهذا الإرهاب وهم أعداء لدولهم وشعوبهم قبل ان يكونوا أعداء لنا. وضمن هذا الإطار فإن من الأبعاد المهمة للضربة الأمريكية وما سيليها تحفيز الدعوشة، حتى تتحرك الآلة الداعشية ويتم إعلان الجهاد ويكون لهم محفّز قوي ويتم تفعيل جميع الخلايا وخاصة في العمق الإفريقي وسيكون هنالك عمليات إرهابية كبيرة ينفذها بوكو حرام والتنظيمات العنقودية المتصلة بداعش والمنتشرة من تونس إلى الجزائر فمالي ونيجيريا ودول الساحل والصحراء، تليها أو تتخللها بعض العمليات الإرهابية في أوروبا وربما امريكا للتحلية وتحفيز الرأي العام في تلك الدول لمحاربة الشر الكامل المتمثل في داعش أو تنظيم الدولة الإسلامية وما خلف ذلك من ضرب الإسلام نفسه كعدو أخير ضمن الحرب التي انتهت مرحلة منها بانهيار الاتحاد السوفياتي. وأيضا سيكون من وراء ذلك تحريك العقدتين لتكوين عقدة واحدة لأن الذي يحرك هذه التنظيمات واحد ولابد من ذلك الدمج لتوسيع دائرة النزاع ومنحه زخما أكبر، وأعني بالعقدتين عقدة القاعدة وعقدة داعش ضمن شبكة العنكبوت الكبيرة، وأرى أن الإعلان عن وحدة بين داعش والقاعدة أو التحرك المشترك (لمواجهة الحرب الصليبية الجديدة على بلاد الإسلام كما سيتم التعبير) هو أمر حتمي. وسيرى الناس ميلاد تنظيم خراسان ونشاط مع تنظيم القوقاز وعمليات تحاول ضرب روسيا أو الدول السوفياتية السابقة وكذا باكستان وأفغانستان والهند وأندونيسيا وهي صلب المخطط بشكل كبير مع شظايا تطال الصين وأستراليا ومحاولات في كندا، وكل هذا تتابعي مع كل نقطة فيها ثروات وفيها تحالف مع الخط الروسي كعقاب أو مع الخط الأمريكي كتحفيز لخلق ردة فعل قوية لدى الشعوب وتبرير التدخلات العسكرية والضحايا من الجنود كما تم بعد 11 سبتمبر مما برر محور الشر وتدمير العراق وأفغانستان ودخول العالم في مسار الخراب الذي افضى لما حدث في سوريا وما يحدث اليوم ووضع صورة بن لادن كعقل مدبّر لكل شيء ثم التخلص منه لاحقا بسهولة وإلقاؤه في البحر (إن كان الأمر صحيحا). وطبيعي أن العقل الشيطاني الذي ضحى بثلاثة آلاف أمريكي في مركز التجارة وذلك الإخراج الهوليودي الرهيب لتلك العملية الكبرى لن يعجز عن القيام بما هو أدنى أو أكبر، ويعلم المختصون في الاستراتيجيا ضمن مستوى من الخبرة والتمكن استحالة قيام مجموعة من الشباب المنتمي للقاعدة بتنفيذ ذلك المخطط وأن بن لادن كان مجرد بيدق لا غير. والأمر ذاته لمن يحلل عمليات فرنسا الأخيرة خاصة في الملعب حيث يوجد رئيس فرنسا نفسه. فدول الغرب تختلف بين العمق المخابراتي والأيدي الموصولة بالصهيونية، وبين العقل الإداري السطحي، والعقل الشعبي الذي يتم التلاعب به وهو سيكون ضحية في نهاية المطاف، فشعوب الغرب فيها طيبة كبيرة تراها في استقبال اللاجئين السوريين، ولكن حصاد ما يفعله من يخونونهم منهم لأجل سرقة الثروات وخدمة إسرائيل الكبرى شبيه في منتهاه بالثمن الذي ندفعه كعرب بسبب الخونة منا والعملاء سدنة المعبد الماسوني بلسان عربي وقلب صيوني.
هل تدرك دولنا أن العالم يتجه لحرب عالمية ثالثة بإخراج جديد: ذكر ذلك الرئيس الفرنسي بعد العمليات الإرهابية، وذكرها ديميتري ميدفديف رئيس حكومة روسيا في رده على تهديد السعودية بالدخول البري مع تركيا في سوريا. وهنالك خبراء كثر يذكرون الأمر بشكل جدي. ولكن لن تكون حربا مباشرة في مراحلها الأولى بل سلسلة من الحروب بالوكالة تمثل داعش أهم وسائلها.
إن ليبيا تم تحويلها إلى قمقم وأسكنوا فيه ماردا قويا جدا، هذا المارد الداعشي يتمتّع بأذرع في كل مكان تقريبا، وبثروات كبيرة وعملاء ودعم مخابراتي لم يسبق لتنظيم أن حظي به، وهو ضمن شطرنج الأمم الجديد عامل أساسي للعبة ومبرر للتدخل في كل مكان، وسوف يرى الناس كيف يكون تنظيم داعش وما لفّ في مداره مبررا لدخول أي دولة بحجة محاربته سواء بذريعة التعاون العسكري وتطوير قدرات الدول أو استئصاله، وأمور أخرى كثيرة ستجري امام أعيننا بخفة يد الساحر حينا وبجلافة وقسوة قطّاع الطرق أحيانا أخرى، ونبقى أمة تفضل النوم على كل شيء، فذلك يجنبنا البكاء على واقعنا، ويوم نستيقظ، لن يبقى شيء لنا، لنبكي عليه.

سوسة
22-02-2016