الهزيمة الأمريكية في العراق دروس ورؤى
صفحة 1 من اصل 1
الهزيمة الأمريكية في العراق دروس ورؤى
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ |
الهزيمة الأمريكية في العراق دروس ورؤى* |
شبكة البصرة |
معن بشور** |
من أجدر من المنتدى القومي العربي وعلى رأسه أستاذنا الكبير الدكتور محمد المجذوب، ومن الحملة الأهلية لنصرة فلسطين والعراق، التي ولدت بمبادرة منه، أن يتوقف أمام حدث بالغ الأهمية في حياة أمتنا والعالم، وهو جلاء قوات الاحتلال الأمريكي عن العراق، وهما هيئتان بقيتا قابضتين على جمر المقاومة والعروبة والوحدة في العراق العظيم، غير هيابتين من كل أنواع الضغوط والحصار والاتهامات والافتراءات وتشويه المواقف والتهويل بالملاحقات، فجاءت الأيام تثبت سلامة موقفهما، وصحة رؤيتهما، ونزاهة قصدهما، منذ أن كانا وراء تنظيم مسيرات التنديد بالحصار والعدوان والاحتلال كما تنظيم مبادرات كسر الحصار البري ثم الحظر الجوي ضد العراق عبر قوافل وطائرات ومؤتمرات ومنتديات ضمت كوكبة من الشجعان، رجالاً ونساءً، ممن بقوا ثابتين على مبادئهم، ومستقلين في توجهاتهم، رافضين الارتهان بكل مغرياته، والإذعان لغير الله ولإرادة الأمة... فتحية لأعضاء المنتدى والحملة، فرداً فرداً، وهيئة هيئة، وعهداً على مواصلة النضال من أجل نصرة فلسطين والعراق وكل مقاومة للاحتلال والهيمنة. بل من أجدر من (دار الندوة) وعلى رأسها المفكر الكبير الأستاذ منح الصلح، دار العروبة والحرية والقضايا المحقة والحوار الرصين من احتضان هذا اللقاء في هذه اللحظات التاريخية الدقيقة خصوصاً ونحن نرى التفجيرات الدامية في العراق تحصد العشرات من المواطنين الأبرياء والتي لا نستطيع تبرئة المحتل وعملائه من المسؤولية فيها لكي يثبت ان لا أمن ولا استقرار داخل العراق بعد خروج قواته، مستغلاً دون شك حال الانقسام السياسي الحاد الذي يشهده العراق والذي أسس له المحتل منذ سنوات. أيها الأخوة والأخوات في 18 نيسان 2003، أي بعد تسعة أيام على احتلال بغداد، دعونا إلى مهرجان شعبي كبير في قاعة الاحتفالات الكبرى في قصر الأونيسكو من أجل نصرة المقاومة العراقية التي أعتبرها كثيرون أسرع مقاومة في العصر، وقلنا يومها إذا كانت حرب الأمريكيين على العراق قد انتهت باحتلاله، فإن حرب العراقيين على الاحتلال الأمريكي قد بدأت وستستمر حتى اندحاره. واليوم، وفي معادلة مماثلة نقول أنه إذا تمكّن الشعب العراقي الأبي أن يهزم بمقاومته أكبر دولة في العالم مع كل حلفائها، فإنه لم يستطع حتى الآن أن يحقق النصر المؤزر للعراق ووحدته وسيادته واستقلاله وعروبته، بل علينا أن نقرّ أن الإدارة الأمريكية التي أجبرتها خسائرها الضخمة وأزماتها المتفاقمة على سحب قواتها من العراق، نجحت في أن تحيط هذا الانسحاب بسلسلة من الأحداث التي تؤكد ما حذرنا منه دائماً أنه إذا انسحبت قوات المحتل فإن مشروعه التدميري الفتنوي ما زال حاضراً. ولعلّ في هذه المعادلة ما يفسّر قلق الكثيرون على مستقبل العراق ووحدته، وهو قلق لا يقلّل من عظمة الانجاز الذي حققته المقاومة العراقية بمجاهديها وقادتها، بتنظيماتها وضباطها، بصمودها على مدى سنوات تسع تقريباً وسط حصار عربي وإقليمي ودولي عزّ نظيره، بل وسط تواطؤ رسمي عربي وعالمي سارع منذ الأسابيع الأولى للاحتلال أن يكرّس مفاعيله وصولاً إلى الموافقة على عقد قمة عربية على أرضه في آذار/مارس الماضي، رغم وجود قوات الاحتلال، وهي القمة التي اطاحت بها لحسن الحظ الثورات الشعبية العربية. وإذا كانت هزيمة الاحتلال (التي أقرّ بها كثيرون داخل الولايات المتحدة وخارجها، وكشفوا عن مظاهرها المتمثلة بالانهيار الخلقي، والارتباك السياسي، والتأزم الاقتصادي، والتراجع الإستراتيجي، والخسائر البشرية والمادية الكبرى)، لا تسمح لنا أن نتجاوز القلق المتنامي على مستقبل العراق ووحدته واستقلاله، وخصوصاً في ظل ما نراه هذه الأيام، فلا يجوز بالمقابل لهذا القلق أن يدفعنا إلى تجاهل عظمة ما أنجزته تضحيات العراقيين التي فاقت كل تضحية مماثلة، سواء على مستوى أعداد الشهداء وبينهم مواطنون، ومجاهدون وقادة بل ورئيس واجه مقصلة الإعدام بشجاعة نادرة، أو على مستوى الدمار الذي ألحقه المحتلون ببلادهم ومواردهم وتراثهم الحضاري وبناهم التحتية في إطار منهج "التدمير الخلاق" الذي دعا إليه يوماً أحد منظري المحافظين الجدد حين دعا إلى تعميم القتل حتى "تدرك شعوب العالم كلها أن عليها أن تختار بين الانصياع الكامل للسيّد الجديد أو الإبادة الكاملة على يده". لقد كشفت مراحل الحصار والعدوان والاحتلال على العراق جملة دروس وحقائق، لا نستعيدها اليوم كجزء من تاريخ العراق والمنطقة بل لكي نستهدي بها في مواجهة تحديات الحاضر ونستشرف في ضوئها أفاق المستقبل. أول هذه الدروس التي تعلمناها من الشعب العراقي العظيم، ومن المقاومين في فلسطين ولبنان وأفغانستان، هي أن لا سبيل لمواجهة المحتلين أو المستعمرين، أو مغتصبي الحقوق إلاّ بالمقاومة القادرة وحدها على تغيير الفارق في موازين القوى، مهما كان كبيراً، لصالح الشعوب المتفوقة في موازين الإرادات. إن إدراك صحة هذه المعادلة، والالتزام بالمقاومة كنهج وخيار وثقافة وسلاح، يتطلب أن نترجمه تمسكاً بهذا الخيار دون مساومة، وأن نجسّده في سياساتنا وإستراتيجياتنا على كل صعيد، بحيث نتحول من مقاومة شعب إلى شعب مقاوم، ومن مقاومة فئة في مجتمع إلى مجتمع مقاوم بكل فئاته، فنقطع الطريق بذلك أمام كل محاولات الاختراق والمغادرة والإيقاع بين أبناء المجتمع الواحد أو الأمة الواحدة. ثاني هذه الدروس هو عقم الرهان على الاستقواء بالأجنبي، احتلالاً أو تدخلاً من أجل تغيير في الداخل، بل الخطورة القصوى التي ينطوي عليها مثل هذا الرهان الذي سرعان ما يتحوّل معه الاحتلال الأجنبي، أو التدخل الخارجي، إلى فعل انقضاض على الوطن كله، والأمة بأسرها، دون أن يوفر في الوقت ذاته عملاءه والذين راهنوا عليه إذ سرعان ما يتخلّى عنهم بعد انتهاء مدة صلاحياتهم. إن انتظار الخلاص على يدّ الاحتلال أو التدخل هو كأمل إبليس في الجنة، كما يقول المثل الشائع، ففي هذا الانتظار سذاجة وجهل بقوانين التاريخ وطبيعة المستعمرين، ناهيك عما فيه من ضعف في المناعة الوطنية والقومية والدينية والأخلاقية. ثالث هذه الدروس هي أن قوى الهيمنة والاحتلال الاستعمارية إذا قررت غزو بلد ما فإنها لا تحتاج إلى ذرائع ومبررات لأنها قادرة دوماً، بما تملكه من قدرات ووسائل، على اختلاق هذه الذرائع وافتعال تلك المبررات من أجل تحقيق غاياتها. ولعل في إطلالة سريعة على حروب الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن الحادي والعشرين تكشف لنا بوضوح صحة هذه المعادلة. فالحرب الأمريكية على إسبانيا عام 1898 للاستيلاء على جزر الكاريبي بدأت بذريعة تفجير الأسبان لسفينة أمريكية ليتبين بعد 82 عاماً، وبموجب اعتراف أمريكي، أن لا علاقة للأسبان بذلك التفجير وإنما وراءه انفجار محركات داخل السفينة ذاتها. الدخول الأمريكي إلى الحرب العالمية الأولى عام 1915 تمّ أثر تعرض الألمان لغواصة لوسيتانيا وتدميرها ليتبين فيما بعد أن السلطات الأمريكية قد سربت معلومات لجيش الرايخ الثالث عن الغواصة لتدميرها وقتل كل البحارة الأمريكيين الذين كانوا بداخلها، لإيجاد مبرر للانخراط في الحرب العالمية ضد دول المحور آنذاك. أما معركة بيرل هاربر 1941 التي دخلت بسببها واشنطن الحرب العالمية الثانية ضد اليابان وألمانيا وإيطاليا فقد تبيّن لاحقاً أن القيادة الأمريكية العليا كانت تملك معلومات دقيقة عن موعد الهجوم وحجمه قبيل وقوعه لكنها لم تضع القيادة المركزية في الهاواي بصورة المعلومات بشهادة قائد الموقع نفسه فيما بعد. لم يكن الأمر مختلفاً في أمر غزو كوبا في مطلع الستينات، المعروف بخليج الخنازير، فقد كشفت وثيقة للمخابرات المركزية الأمريكية (تمّ الكشف عنها بعد مرور المهلة المعروفة على إبقائها سرية) عن أنها (أي المخابرات الأمريكية) قد وضعت جملة سيناريوهات تبرّر غزو كوبا، منها تفجير سفينة أمريكية قرب الساحل الكوبي، واتهام فيديل كاسترو بها، أو شن هجوم على مخيمات اللاجئين الكوبيين في ديامي وقتل عدد منهم والإيحاء بدور كوبا في ذلك، أو، وهو الأخطر، تحضير طائرة دون طيار تحمل رقم طائرة مدنية ونوعها وتنطلق في التوقيت ذاته، ثم يتمّ إنزال الطائرة المليئة بالركاب بأسمائهم المستعارة، ثم يجري تفجير الطائرة الأخرى واتهام السلطات الكوبية بذلك. ولعلّ الفضيحة الأكبر كانت في السبب الذي شنّت فيه واشنطن حربها ضد فيتنام حين أوعز وزير الدفاع آنذاك، روبرت ماكنمارا، إن الفيتناميين قد أغرقوا سفينة أمريكية، مادوكس، في خليج تونكين الفيتنامي، وانتزعت شهادة حكومة سايغون العميلة المؤيدة لاتهامهم، فكانت حرب مديدة قتل فيها 4 ملايين فيتنامي وعشرات الآلاف من الأمريكيين ليخرج بعد 40 سنة ماكنمارا ذاته ليعلن أنه لم يكن هناك سفينة أمريكية في خليج تونكين، تماماً كما خرج كولن باول وزير الخارجية الأمريكية بعد خمسة وأربعين سنة على حادثة خليج تونكين ليعتذر عما قدّمه من أفلام ووثائق عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق. ولعل العراق كان الأكثر عرضة لهذا النوع من الأكاذيب تبريراً للحرب عليه، أبرز تلك الأكاذيب إبلاغ واشنطن للرياض عن وجود 250 ألف جندي عراقي مع دباباتهم على الحدود الكويتية - السعودية عام 1990، بهدف الغزو، وذلك لإفساح المجال للبنتاغون أن يقيم قواعده العسكرية في السعودية ودول الخليج، ليتبين فيما بعد، وفي صور التقطتها أقمار صناعية أنه لم يكن هناك دبابة واحدة أو آلية أو رجل واحد على تلك الحدود، ومن تلك الأكاذيب شهادة ممرضة كويتية في واشنطن عن وحشية الجنود العراقيين وقتلهم لأطفال رضع في مستشفى كويتي ليتبين فيما بعد أن تلك الممرضة لم تكن إلاّ ابنة سفير الكويت في الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، وإن الشهادة برمتها كانت من صنع واحدة من أكبر الشركات الإعلامية الأمريكية (هيل ونولتون)، تماماً كما كان لشركة مماثلة دور في ترتيب تظاهرة صغيرة جاءت إلى بغداد وعملت على تحطيم نصب للرئيس العراقي الشهيد صدام حسين، بل ليقول البعض إن المشهد كله كان مصوراً قبل حدوثه، ليكون جزءاً من الحرب الإعلامية التي أسقطت العاصمة العراقية قبل سقوطها فعلاً. أما في أفغانستان، فلقد كشفت وثائق أمريكية عدّة إن خطة الهجوم عليها قد وضعت قبل أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، وإنها كانت موضوعة على طاولة بوش الابن في 10 أيلول/سبتمبر، وقد وضعتها شركة النفط الشهيرة UNOCAL بعد فشل مفاوضاتها مع طالبان للسماح لها بإنشاء خط أنابيب غاز من دول بحر قزوين إلى المحيط الهادئ، يومها قال مسؤولو الشركة لطالبان: إما أن نغطيكم بالذهب أو بالموت فما عليكم إلا الاختيار. والجدير بالذكر أن حميد كرزاي رئيس أفغانستان ما بعد الاحتلال كان أحد أبرز مستشاري الشركة التي أضافت مع شقيقاتها مصطلح النفطي إلى جانب مصطلح المجمع العسكري الصناعي الذي حذّر منه الرئيس إيزنهاور يوماً ليصبح اليوم المجمع العسكري - الصناعي - النفطي - المصرفي. إن التذكير بهذه الأحداث، ومعها حادثة رواية محاولة اغتيال السفير الصهيوني في لندن لتبرير الغزو الصهيوني للبنان عام 1982، هو مسألة بالغة الأهمية لقراءة ما يدور حولنا، خصوصاً حول سوريا، والتنبه إلى اللعبة الإعلامية – المخابراتية الخطيرة الجارية والتي تسعى دون شك إلى استغلال مطالب مشروعة للشعب السوري لتحقيق أهداف غير مشروعة. رابع هذه الدروس هو ان هذه المنطقة العربية والإسلامية هي مسرح عمليات واحد بالنسبة لأعدائها، فهم يخططون لها كوحدة متكاملة، فيما نتعامل معهم متفرقين بل ومتناحرين، مغلّبين الاعتبار الفئوي، حزبياً كان أم شخصياً أم حتى عقائدياً على الاعتبار الجامع، فنختزل قوانا بقوانا ويحقق أعداؤنا أغراضهم. لقد جرى غزو العراق واحتلاله بعد حصار دام 13 سنة، فيما الدول العربية والإقليمية في أغلبها إمّا متواطئة عبر تسهيل الغزو أو تمويله أو المشاركة فيه أو صامتة عاجزة، وإذا خرج واحد منها عن صمته انهالت عليه الضربات والمؤامرات سواء كانت دولة، كما جرى مع سوريا ولبنان بعد قمة شرم الشيخ الشهيرة، ولقاء الرئيس الأسد مع وزير خارجية الولايات المتحدة كولن باول، أو كانت هيئات أو مجموعات أو حتى شخصيات عربية ودولية كما جرى مثلاً مع جورج غالاواي في بريطانيا من حملات تشهير وتشويه أدت إلى فصله من حزبه، حزب العمال، الذي أمضى فيه كل عمره. لذلك لا يكفي أن تقول "بلدي أولاً"، كما يفعل كثيرون هذه الأيام، بل يجب ان تدرك انك، إذا تجاهلت الارتباط بقضية بلدك بما يدور حولك ستكتشف أن أعداء امتنا لن يتركوك وحدك، وهذا درس ينبغي أن يتوقف عنده اليوم عدد ممن حملتهم الثورات العربية وصناديق الاقتراع إلى السلطة، وكذلك بعض المتربعين على عروشهم هانئين الذين لم تصل بلادهم رياح التغيير فظن بعضهم انه قادرا على قيادة التغيير في بلاد الآخرين. خامس هذه الدروس هو انكشاف زيف ما يسمى "بالمجتمع الدولي"، بمجالسه وهيئاته العامة ومنظماته المتخصصة ونفاقه وازدواجية معاييره تجاه كل قضايانا العادلة. غير أن انكشاف تبعيته للسياسة الأمريكية كان بالغ الوضوح في المسألة العراقية، حيث أتخذ، وفي غضون ساعات، جملة قرارات دولية متسارعة ومتلاحقة بعقوبات على العراق، ثم شارك في الحرب الأولى، ونفذ على مدى ست سنوات بالحصار الكامل على العراق وفقاً للبند السابع في الميثاق الأممي قبل أن يسمح بالبرنامج المعروف. "الغذاء مقابل النفط"، والذي فضح ممارساته اللانسانية موظفون كبار في البرامج الإنسانية للأمم المتحدة. لكن المهزلة الأكبر كانت في اعتراف الأمم المتحدة، بعد جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، بالاحتلال ومفاعيله، رغم أن الحرب على العراق لم تكن "شرعية أو قانونية" حسب شهادة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان فكوفئ على تصريحه باتهامه بالرشوة ثم بإقالته من منصبه. وفي إخراج قانوني مضحك، رعت المنظمة الدولية ما سمي بنقل "السيادة إلى العراقيين" في حزيران 2004 واعتبرت قوات الاحتلال قوات متعددة الجنسية تابعة للأمم المتحدة في أكذوبة أخرى تثير سخرية واشمئزاز كل عراقي أو متابع للتطورات العراقية. ولقد جاء جلاء قوات الاحتلال الأمريكي عن العراق هذه الأيام، وقبله الاتفاقية الأمنية الشهيرة بين المنطقة الخضراء والبيت الأبيض، لتتجاهل تماماً، ولو بالشكل، أي دور للأمم المتحدة التي اعتبرت نفسها راعية لهذه القوات لكي تنفي عنها يومها صفة قوات الاحتلال وما يترتب على هذه الصفة من التزامات. اما الدرس السادس فهو في الانكشاف المريع لتلك العلاقة بين الاحتلال والفساد، بل بينهما وبين الاستبداد وملحقاته من اغتيالات واعتقالات وتعذيب وتزوير وتهجير. فالمواطن الأمريكي يتساءل مثلا عن مصير 20 مليار دولار ضّختها حكومته من خزينة بلاده لإنشاء "مدارس وطرق ومستشفيات وكهرباء ومياه" في العراق، حسبما قال بوش يومها، فإذ بها تختفي خلال أشهر قليلة دون أن يحصل العراقيون على أي من الخدمات الموعودة، بل دون أي محاسبة قانونية لآلية الأنفاق، فشهد العالم أجرأ عملية نصب واحتيال عالمية كان مهندسها الأول بول بريمر والمستفيدون الرئيسيون منها شركة (هاليبرتون) التي كان ديك تشيني احد كبار العاملين فيها، بالإضافة إلى رونالد رامسفيلد وزير الدفاع آنذاك ومعه ضباط ومستشارون كبار أطلقوا معادلة " Cost + " أي الكلفة زائد نسبة من الأرباح وذلك من اجل نهب مال دافع الضريبة الأمريكية بحجة الحرب في العراق فحققت مثلا الشركة المحظية أرباحاً بقيمة عشر مليارات دولار ونصف المليار خلال ثلاثة أشهر فقط وهو رقم لم تحّققه شركة أمريكية أخرى ما عدا شركة (اكسون) النفطية في ظرف آخر. وكما كان الراعي الأكبر فاسداً، فان الرعاة المحليين الأصغر تمثلوا به ونهبوا خيرات العراق على نحو غير مسبوق جعل من بلدهم، الذي كان محصناً ضد الفساد على مدى عقود، مع أفغانستان، على رأس لائحة البلدان الأكثر فساداً ولعل ما تتعرض لها "هيئة النزاهة" في العراق من قتل لموظفيها وتفجير لمبناها، وسرقة لوثائقها هو اسطع دليل على مدى تغلغل الفساد العراقي منذ الاحتلال. سابع هذه الدروس وأكثرها حاجة للتأمل والتدقيق، فهو تلك العلاقة بين الاحتلال، كشكل متقدم من أشكال التدخل الأجنبي، وبين تقسيم دول المنطقة كهدف واضح من أهداف المشروع الصهيوني. وتقسيم الدول هو عربة لها جوادان يجرانها، احدهما هو المحاصصة الطائفية والعرقية وثانيهما هو الفتنة بكل أشكالها وهو ما نجح المحتل وأدواته في تجهيزها تجهيزاً جيداً عشية الاحتلال وفي السنوات التي تلت. كان التمهيد للمحاصصة الطائفية والعرقية جلياً منذ اللحظة التي أنكر فيها المحتل، وقبل أن تصل جيوشه إلى العراق، الهوية العراقية والعربية والإسلامية الجامعة للعراق. فجرى الحديث عن طوائف وأعراق لا عن وطن ومواطنين، وفي الأعراق تم القفز تماماً فوق العروبة التي تجمع 80% من العراقيين، من ثم تكريس الهويات القومية الأخرى كالأكراد والتركمان وهويتهم بالطبع حق مشروع لهم، أما في الأديان فقد جرى الاعتراف بالأديان الأخرى كمكونات اجتماعية (رغم كل ما عانته هذه المكونات من اضطهاد في زمن الاحتلال) فيما لم يجر الحديث عن الإسلام كدين جامع للأغلبية الساحقة من العراقيين، بل عن سنة وشيعة، بما يشير إلى ان المطلوب هو إلغاء الهوية الجامعة (العروبة) والعقيدة الجامعة (الإسلام) لصالح هوية فرعية يمكن استخدامها في مشروع الاحتراب الأهلي والانفصال التقسيمي. أما الفتنة، فيكفي أن نذكر كيف أن السفير الأمريكي نيغروبونتي، وهو مهندس حروب أهلية في دول أخرى لا سيّما السلفادور، قد نجح بعد خلافته لبول بريمر في بدايات 2005 في إشعال فتن مذهبية وطائفية، بل وداخل الطائفة الواحدة، في محاولة للالتفاف على المقاومة والإجهاز عليها كعامل توحيد للعراقيين لا سيّما بعد أن برزت انتفاضة الفلوجة الأولى، فانتفاضة النجف بعدها، وتلاحم ثوار الأنبار مع ثوار كربلاء فأصيب المحتل بالذعر حينها وانطلقت خططه في تفجير بيوت الله ومراقد الأئمة والمدارس والمستشفيات وغيرها، كما في إطلاق عنان العصبيات الطائفية التي نجحت في إغراء بعض الزعماء والأحزاب في ركوبها، فغذوها بدل أن يطفئوها، ومنحتهم هي مواقع ومناصب لم يكونوا يحلمون بها وها هم اليوم يتحولون إلى ضحايا لها. أما الدرس الثامن فيكمن في انكشاف الدور الصهيوني في التحضير والتحريض على احتلال العراق وتدمير دولته وجيشه ومرافقه وتراثه والثأر من حزب البعث الذي كان حزباً لفلسطين والوحدة العربية منذ تأسيسه، والانتقام من رئيس العراق الشهيد صدام حسين لصواريخ أطلقها على الكيان الصهيوني فأقسم قادته على الانتقام منه، لذلك لم يكن غريباً أن أول رئيس لهيئة اجتثاث البعث منال الألوسي هو أول من زار علناً الكيان الصهيوني بعد احتلال العراق، تماماً كما برز حديث عن إعادة العمل بخط كركوك – حيفا النفطي، وجر مياه من الفرات ودجلة إلى الكيان المعادي. وإذا كان الكثير يرى أن الحرب الأمريكية على العراق كانت قراراً صهيونياً نفذه بوش وإدارته المرتهنة لتل أبيب، فإن الحرب الإسرائيلية على لبنان كانت قراراً أمريكياً أيضاً انطلاقاً من إدراك واشنطن لتكامل المقاومتين العراقية واللبنانية، ومعهما الفلسطينية، في مواجهة المشروع الصهيوني – الأمريكي، المعروف باسم الشرق الأوسط الكبير الذي أعلن بوش ان احتلال العراق هو الخطوة الأولى على طريق تحقيقه، تمامـاً كما أعلنت كونداليزا رايس عام 2006 ان هذا المشروع سيولد من مخاض الحرب على لبنان. ولعل الأمر ذاته ينطبق على قضايا المنطقة ذاتها، فالقيادة السورية تدرك إن المقاومة في العراق قد لعبت دوراً هاماً في إضعاف الهجمة الأمريكية عليها بعد عام 2004، تماماً كما يدرك الإيرانيون أيضاً إن انشغال الإدارة الأمريكية بأزمة جنودها في العراق وأفغانستان أفسح المجال لطهران أن تمضي قدماً في مشروعها النووي، وهو أمر حرصتُ شخصياً على التأكيد عليه خلال كلمتي باسم المؤتمر القومي العربي في مؤتمر دعم الانتفاضة الفلسطينية الذي انعقد في طهران في ربيع 2006. وإذا كان هناك من التباسات وتوترات عديدة تحيط بالعلاقات الإيرانية مع أوساط عراقية واسعة، بينها قوى لعبت، وما تزال، دوراً هاماً في مقاومة الاحتلال، فإن جهداً كبيراً ينبغي أن تبذله حركتا المقاومة في لبنان وفلسطين ومعها القيادات العربية والإقليمية المؤثرة وكذلك كل المؤتمرات والهيئات الشعبية العربية من أجل تجاوز هذه التوترات وتطويق تداعياتها وبناء علاقة سليمة بين العراق وإيران تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية وعلى احترام المصالح والسيادة الوطنية لكل قطر، وعلى بناء جبهة ممتدة من طهران إلى غزة، ومفتوحة على كل دولة عربية أو إقليمية مستعدة للانخراط في مواجهة المشروع الصهيوني لا سيّما مصر الثورة التي ندرك جميعاً ارتباط أمنها القومي بقيام هذه الجبهة الشرقية التي لن تغيّر وجه المنطقة وحدها، بل ستسهم كذلك في تغيير وجه العالم كله لا سيّما من خلال تلاقيها مع القوى الدولية الرافضة للهيمنة الاستعمارية وفي طليعتها دول البريكس (برازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا) ودول أمريكا اللاتينية. الرؤى أما الرؤى المستقبلية لعراق ما بعد الجلاء الأمريكي عنه فهي تندرج في إطار مشهدين (أو سيناريوهين) لا ثالث لهما. المشهد الأول هو مشهد التردي والتشظي والانهيار أي مشهد استمرار الواقع الراهن، والذي هو من إفرازات الاحتلال، بكل انقساماته وصراعاته وبغياب الاستقرار الأمني والسياسي الذي يعيشه وصولاً إلى محاولات مستمرة، يغذيها الخارج لا سيّما الأمريكي – الصهيوني، لإشعال فتن عرقية وطائفية وللتشجيع على انفصال محافظات وعلى شكل أقاليم. هذا المشهد الذي أخذ يخترق حلفاء العملية السياسية ذاتها كان يتجاهل أصلاً قوى رئيسية في المجتمع العراقي اتخذت مواقف مناهضة للاحتلال ومفاعيله وفي طليعة هذه القوى دون شك حزب البعث الذي لم تستطع كل سنوات الاجتثاث أن تنال منه بشهادة القيّمين على الحكم في العراق وخصوصاً مع تحالفاته العريضة في إطار جبهة القوى الوطنية والقومية والإسلامية. إلى جانب البعث هناك قوى وشخصيات قومية وإسلامية ووطنية وتقدمية وديمقراطية وفصائل مقاومة تنخرط في هيئات وجبهات متعددة كالمؤتمر التأسيسي الوطني، وهيئات العلماء المسلمين، والتيار القومي العربي والحزب الشيوعي (الكادر) والعديد من الشيوعيين الوطنيين، وكلها خارج العملية السياسية لكنها موحدة حول برنامج يتلخص باستقلال العراق ووحدته وديمقراطيته وهويته العربية والإسلامية. أما المشهد الثاني، وهو مشهد خروج العراق من محنته وعذاباته ومعاناته، فهو المشهد القائم على إعادة بناء عراق موحد جامع، ديمقراطي مستقل، متمسك بانتمائه العربي والإسلامي، وهو مشهد يقوم على ميمات أربع طالما رددناها منذ احتلال العراق، وكانت عنوان كلمتي لدى انتخابي أميناً عاماً للمؤتمر القومي العربي في صنعاء بعد ثلاثة أشهر من احتلال العراق عام 2006. هذه الميمات الأربع هي: المقاومة لدحر الاحتلال ومشاريعه، المصالحة كجسر يصون وحدة الوطن، المراجعة التي تتجنب تكرار الأخطاء والخطايا، المشاركة التي تضمن إشراك كل العراقيين في بناء وطنهم، أما برنامج تحقيقها فلقد حددت إطاره الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي في بيانها الصادر في 19/12/2011 أي بعد ساعات من مغادرة أخر جندي أمريكي ارض العراق. 1 – الإسراع في تجاوز الانقسامات السياسية الراهنة ومخاطر الاحتراب الأهلي الدموي عبر تحقيق مصالحة وطنية شاملة لا تستبعد أي جهة عراقية. 2 – الدعوة إلى مؤتمر حوار عراقي وطني ينكب على معالجة كل الثغرات التي تواجه العراق حاضراً ومستقبلاً، والاتفاق على آليات مشتركة لهذه المعالجة تضمن مشاركة كل العراقيين فيها. 3 – الإفراج الفوري عن كل الأسرى والمعتقلين العراقيين والعرب بسبب انتمائهم للمقاومة، والاحتفاء بهم كمقاومين هزموا الاحتلال وصنعوا لوطنهم وأمتهم، فجراً جديداً ومجداً تليداً، وكذلك إعادة الاعتبار لكل شهداء الشعب العراقي، مجاهدين وعسكريين، ممن قدموا أرواحهم في مقاومة العدو، كما إلغاء كل الإجراءات التي تحول دون عودة المنفيين والمبعدين عن العراق لأسباب وطنية وبينهم رموز وقادة بارزون. 4 – تشكيل حكومة اتحاد وطني انتقالية تضم كل القوى والشخصيات السياسية في العراق تكون مهمتها الإشراف على انتخابات نيابية حرّة خارج الاحتلال ينبثق عنها جمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً للعراق بعيداً عن تدخلات المحتل. 5 – العمل على ترسيخ الوحدة الوطنية العراقية بعيداً عن التدخلات الخارجية، والتجاذبات الإقليمية، وإفساح المجال للعراقيين وحدهم معالجة قضاياهم بأنفسهم. 6 – إلغاء اتفاقية الإطار الإستراتيجي المعقودة مع الإدارة الأمريكية باعتبارها أحد مفاعيل الاحتلال ومكملة لمخططاته. 7 – استعادة دور العراق العربي والإقليمي والعالمي، لاسيّما في مواجهة قضايا الأمة الرئيسية وفي مقدمها قضية فلسطين، واستعادة مبادرات وحدوية تحقق تكامله مع أقطار الأمة. 8 – البدء بسلسلة إجراءات لمحاكمة كل من تثبت علاقته بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم التعذيب التي شهدها العراق على مدى عشرين عاماً ونيّف، منذ بدء الحصار والعقوبات الاقتصادية عام 1991، حتى جلاء المحتل عام 2011، والسعي لتحويل الملف العراقي برمته إلى المحاكم الدولية المختصة جنباً إلى جنب مع محاكم عراقية مختصة بهذا الشأن. 23/12/2011 *محاضرة ألقيت في (دار الندوة) بدعوة من المنتدى القومي العربي والحملة الأهلية لنصرة فلسطين والعراق. **الرئيس المؤسس للمنتدى القومي العربي، المنسق العام للحملة الأهلية لنصرة فلسطين والعراق. |
شبكة البصرة |
الجمعة 28 محرم 1433 / 23 كانون الاول 2011 |
يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط |
SUNTOP-
- الجنس :
عدد المساهمات : 1934
نقاط : 14287
تاريخ التسجيل : 17/09/2011
. :
رد: الهزيمة الأمريكية في العراق دروس ورؤى
عليكم يا إخواننا في ليبيا التعلم من المقاومة العراقية
????- زائر
مواضيع مماثلة
» الصحف الأمريكية تتناول الهزيمة النكراء للاحتلال الحاقد وتكشف أكاذيب إدارته في العراق
» هنا العراق ارتال الحشد الطائفي مستمرة بالانسحاب تجر اذيال الهزيمة من اطراف الكرمة ومرت في ابو غريب مع اسعافات تنقل قتلاهم وجرحاهم
» شاهدوا تقرير قناة abc الأمريكية حول جرائم المليشيات الايرانية في العراق
» اعترافات سيوزن لنداور ضابطة اتصال الاستخبارات الأمريكية مع العراق
» "هناك أجندات ورؤى مختلفة داخل قطرائيل تنعكس على الساحة الليبية وهذا يشكل خطرا" هذا ما قاله جرذ مسؤول
» هنا العراق ارتال الحشد الطائفي مستمرة بالانسحاب تجر اذيال الهزيمة من اطراف الكرمة ومرت في ابو غريب مع اسعافات تنقل قتلاهم وجرحاهم
» شاهدوا تقرير قناة abc الأمريكية حول جرائم المليشيات الايرانية في العراق
» اعترافات سيوزن لنداور ضابطة اتصال الاستخبارات الأمريكية مع العراق
» "هناك أجندات ورؤى مختلفة داخل قطرائيل تنعكس على الساحة الليبية وهذا يشكل خطرا" هذا ما قاله جرذ مسؤول
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت 9 نوفمبر - 0:32 من طرف علي عبد الله البسامي
» تحية لفرسان لبنان
الجمعة 1 نوفمبر - 23:43 من طرف علي عبد الله البسامي
» أشجان عربية
الجمعة 25 أكتوبر - 22:54 من طرف علي عبد الله البسامي
» فلنحم وجودنا
الإثنين 21 أكتوبر - 22:13 من طرف علي عبد الله البسامي
» وداع الأبطال
الأحد 20 أكتوبر - 10:19 من طرف علي عبد الله البسامي
» بين الدين والاخلاق
الجمعة 18 أكتوبر - 10:36 من طرف علي عبد الله البسامي
» حول مفهوم الحضارة
الجمعة 18 أكتوبر - 10:33 من طرف علي عبد الله البسامي
» فيم تكمن قيمة الانسان ؟؟؟
الجمعة 18 أكتوبر - 10:30 من طرف علي عبد الله البسامي
» حزب المجد
الخميس 17 أكتوبر - 23:24 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الإقدام
السبت 12 أكتوبر - 13:59 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الى امّتنا
الخميس 10 أكتوبر - 16:49 من طرف علي عبد الله البسامي
» حقيقة الثقافة
الجمعة 20 سبتمبر - 14:56 من طرف علي عبد الله البسامي
» وجعٌ على وجع
الإثنين 16 سبتمبر - 17:28 من طرف علي عبد الله البسامي
» تعاظمت الجراح
الأحد 15 سبتمبر - 17:57 من طرف علي عبد الله البسامي
» بجلوا الابطال
الجمعة 13 سبتمبر - 17:37 من طرف علي عبد الله البسامي
» موقف عز وشرف
الثلاثاء 20 أغسطس - 0:19 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الوفاق
الخميس 8 أغسطس - 18:27 من طرف علي عبد الله البسامي
» رثاء الشهيد اسماعيل هنية
الأربعاء 31 يوليو - 18:37 من طرف علي عبد الله البسامي
» هدهد الجنوب
الجمعة 26 يوليو - 20:41 من طرف علي عبد الله البسامي
» حماة العفن
الأربعاء 17 يوليو - 16:53 من طرف علي عبد الله البسامي