التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم
الفصل الثاني
التدرج في الدعوة باعتبار الوسيلة
وفيه تمهيد وأربعة مباحث :
المبحث الأول : القول
المبحث الثاني : السرايا والغزوات
المبحث الثالث : الكتب والرسائل
المبحث الرابع : الوفود والبعوث
تمهيد
بينت في الفصل الأول التدرُّج في موضوع الدعوة فذكرت التوحيد وأهمية البدء به ، ثم عقبت ببيان الشريعة وصلتها بالتوحيد وأهمية التدرج في الدعوة إليها ، وفي هذا الفصل سوف أبين الوسيلة النبوية التي من خلالها تم عرض هذا الموضوع ، فلكل موضوع فكرة ووسيلة ، والداعية له وسائله العديدة في إيصال دعوته وتبليغها للناس ، ولكل وسيلة زمانها ومكانها الملائم لها ، فمن الوسائل ما يصلح لزمان ولا يصلح لزمان آخر ، وقد تكون هذه الوسيلة مثمرة لكنها في وقت آخر تصبح مثار سخرية واستهزاء (1) .
_________
(1) د . زيد بن عبد الكريم الزيد ، الحكمة في الدعوة إلى الله ص 89 .
وبعد تأملي لسيرته صلى الله عليه وسلم العطرة تبينت أن وسائله عليه الصلاة والسلام في تبليغ الدعوة وحمايتها قد جاءت متدرجة كأنها حلقات في سلسلة ، كل حلقة تقود إلى التي تليها فأظهرت لنا هذه الوسائل طبيعة التدرج في السير خطوة خطوة ، فبدأ صلى الله عليه وسلم بوسيلة القول واستمرت هذه الوسيلة طيلة العهد المكي ، ثم لما هاجر صلى الله عليه وسلم حيث الجماعة المسلمة وأقام دولة الإسلام اتخذ وسيلة لحماية هذه الجماعة وتلك الدولة وهي السرايا والغزوات ، اتخذها صلى الله عليه وسلم للدفاع عن الدعوة وحمايتها من المعتدين ، ثم بعد أن هادن العدو في الحديبية اتخذ وسيلة بلاغية وهي الكتب والرسائل ، اتخذها لتبليغ الدعوة إلى العالم الخارجي ، ثم كانت آخر وسائله صلى الله عليه وسلم بعث البعوث ليقوموا بمهمة البلاغ والتعليم ، وفيما يلي التفصيل في هذه الوسائل .
المبحث الأول
القول
تبرز أهمية وسيلة القول من حيث إنَّها وسيلة فطرية متوفرة لدى الناس إلا من شذّ بسبب خرس أو نحوه (1) ، ويبرز القول وسيلة دعوية من حيث اهتمام القرآن الكريم به فقد ورد لفظ : " قل " في أكثر من ثلاثمائة آية (2) من ذلك قوله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } (3) { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } (4) { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } (5) { قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } (6) { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (7) ، وما من رسول إلا قال لقومه شيئا ، وبين لهم ، ولذا اقتضت حكمة الحكيم العليم أن يبعث كل رسول بلغة قومه ( قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (9) فالبيان بالقول هو وسيلة الرسل عليهم السلام في دعوتهم (10) وهو وسيلة النبي صلى الله عليه وسلم الأصلية والأساسية في عرض دعوته في العهد المكي (11) ، وحين تأملي لسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم في هذا العهد تبين لي مصداق ذلك ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته سرًّا بالقول ، ثم لما نزل قوله
_________
(1) د . محمد أبو الفتح البيانوني ، المدخل إلى علم الدعوة ص 311 .
(2) انظر : د . البيانوني ، ص 311 .
(3) سورة الإخلاص ، الآية : 1 .
(4) سورة الكافرون ، الآية : 1 .
(5) سورة النساء ، الآية : 63 .
(6) سورة طه ، الآية : 45 .
(7) سورة فصلت ، الآية : 33 .
( انظر : د . البيانوني ، المدخل إلى علم الدعوة ، ص 311 .
(9) سورة إبراهيم ، الآية : 4 .
(10) انظر د . عبد الكريم زيدان ، أصول الدعوة ص 471 .
(11) انظر د . حسن عيسى عبد الظاهر ، فصول في الدعوة الإسلامية ص 87 .
تعالى { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } (1) جهر صلى الله عليه وسلم بالقول فقام خطيبا على جبل الصفا ينذر قريشا ويدعوهم إلى الله (2) « ودعا عليه الصلاة والسلام عمه أبا طالب قائلًا له : أي عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله » (3) .
_________
(1) سورة الحجر ، الآية : 94 .
(2) انظر مسفر البواردي ، أسس الدعوة في سورة إبراهيم عليه السلام ص 86 .
(3) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب : ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (ك 68 ح 4494) 4 / 1788 ، 1789 .
ومما يؤكد أن وسيلته صلى الله عليه وسلم في هذا العهد القول حديث إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه ، فقد روى مسلم عن أبي أمامة قال : « قال عمرو بن عبسة السلمي : كنت وأنا في الجاهلية أظن الناس على ضلالة ، وأنهم ليسوا على شيء ، وهم يعبدون الأوثان ، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا ، فقعدت على راحلتي ، فقدمت عليه ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا جرآء عليه قومه ، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له : ما أنت ؟ قال : " أنا نبي " ، فقلت : وما نبي ؟ قال : " أرسلني الله " فقلت : وبأي شيء أرسلك ؟ قال : " أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء . . . » (1) فقوله : " فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا " هذا الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين هذا الرجل يبين أن وسيلته عليه الصلاة والسلام في دعوة هذا الرجل هي القول ، فلم يتجاوز عليه الصلاة والسلام القول إلى سواه يدل على ذلك قوله للرجل حينما قال إني متبعك : " إنك لا تستطيع يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني " فالقول هو وسيلته صلى الله عليه وسلم في الدعوة في هذا العهد ، من بدايته
_________
(1) مسلم ، صحيح مسلم ، كتاب الصلاة ، باب إسلام عمرو بن عبسة (ك 6 ح 294) 1 / 569 .
إلى نهايته ، فحينما خرج إلى الطائف دعاهم إلى الله بالقول ، يقول ابن إسحاق : " لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر ثقيف . . . فدعاهم إلى الله ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه . . " (1) ، وحينما أمره الله بعرض نفسه على القبائل ، كان يدعوهم بالقول ، يقول ابن إسحاق : " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره ، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الإسلام ، ويعرض عليهم نفسه ، وما جاء به من الهدى والرحمة . . . " (2) .
_________
(1) ابن هشام ، السيرة النبوية ، 2 / 47 ، 48 .
(2) المرجع السابق ، 2 / 52 .
وبالقول استطاع صلى الله عليه وسلم إقناع وفد الأنصار بدعوة الحق حين التقى بهم فقد قال لهم كما يروي ابن إسحاق : " أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن " (1) ، وكان القول وسيلة مبعوثيه صلى الله عليه وسلم في إقناع مدعويهم ، فقد قال مصعب بن عمير وهو مبعوثه صلى الله عليه وسلم إلى يثرب لزعيمي بني عبد الأشهل : " أو تقعد فتسمع ، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته ، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ؟ " (2) ، هذه النصوص تبين لنا أن القول هو الأصل في وسائل الدعوة إلى الله تعالى وهو الوسيلة الأولى والأصيلة في إيصال الحق إلى المدعوين (3) .
_________
(1) المرجع السابق 2 / 54 .
(2) ابن هشام ، المرجع السابق 2 / 59 .
(3) انظر : د . زيدان ، أصول الدعوة ص 471 ، وانظر : وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الموسوعة الفقهية 20 / 332 ، 333 .
المبحث الثاني
السرايا والغزوات
بعد أن أدّى القول دوره وسيلة بلاغية في العهد المكي قامت به الحجة على المشركين شرع الله الهجرة لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم شرع له القتال بالسيف وأنزل الحديد لينصر به الحق ويقيم به العدل ، وليكون رادعًا لكل من أبى الحق ، ولم يقبل شرع الله (1) قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } (2) فبين أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل ، وما به يعرف العدل ليقوم الناس بالقسط ، وأنزل الحديد ، فمن خرج عن الكتاب والميزان قوتل بالحديد (3) والمقصود به آلات الجهاد كالسيف والرمح والنصل والدرع ، ونحو ذلك من طائرات ومدافع ودبابات (4) فأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم باتخاذ كافة أسباب القوة (5) فقال سبحانه : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } (6) ، وقد فقه صلى الله عليه وسلم هذه التوجيهات الإلهية الكريمة فاتخذ السرايا والغزوات لتكون وسيلة دعوية هامة ، تقوم على حماية الدعوة من اعتداء المعتدين ، لما تحدثه من أثر كبير في إرهاب العدو وتحييده وزعزعة ثقته (7) فغزا صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة يدل على ذلك ما
_________
(1) انظر : ابن تيمية ، مجموع الفتاوى 18 / 157 ، 35 / 36 .
(2) سورة الحديد ، الآية : 25 .
(3) ابن تيمية ، مجموع الفتاوى 35 / 366 .
(4) انظر : ابن تيمية 12 / 135 ، وانظر : السعدي ، تيسير الكريم الرحمن ، 3 / 183 .
(5) انظر : محمد رشيد رضا ، تفسير المنار ، 10 / 61 .
(6) سورة الأنفال ، الآية : 60 .
(7) انظر : د . محمد بن مخلف المخلف ، الحرب النفسية ، ص 304 .
رواه البخاري « عن أبي إسحاق كنت إلى جنب زيد بن أرقم ، فقيل له : كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة ؟ قال : تسع عشرة ، قيل : كم غزوت أنت معه ؟ قال : سبع عشرة . . . » (1) ، فكانت أولى هذه الغزوات غزوة الأبواء ، حيث خرج صلى الله عليه وسلم يريد قريشًا فوادع بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة من كنانة ، وادعه رئيسهم مجدي بن عمرو الضمري (2) ، ثم غزا صلى الله عليه وسلم غزوة بواط ، ووادع فيها بني مدلج من كنانة (3) وأرسل صلى الله عليه وسلم عددًا من السرايا ، منها سرية عبد الله بن جحش التي غنمت عيرًا لقريش بعد ما قتلت بعض أهلها ، وأسرت الباقين (4) وقد أدت هذه الغزوات والسرايا دورًا كبيرًا في إرهاب العدو وتحييده .
_________
(1) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة العشيرة ، أو العسيرة ، (ك 67 ح 3733) 4 / 1453 .
(2) انظر : ابن هشام ، السيرة النبوية ، 2 / 170 ، 171 ، وانظر : ابن حجر ، فتح الباري 8 / 4 .
(3) انظر : ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 176 ، 177 ، وانظر : ابن حجر ، فتح الباري 8 / 4 .
(4) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 8 / 4 .
ثم كانت بعد ذلك غزوة بدر الكبرى ، وأحد ، والأحزاب ، وقد كان لهذه الغزوات أثر كبير في دفع الهجوم عن دار الهجرة ، ومنع اعتداء المعتدين ثم جاءت غزوات الحديبية وخيبر والفتح وحنين والسرايا المزامنة لها فكانت وسائل في إلزام قريش واليهود والعرب الخضوع للقيادة الإسلامية ، ودخول كثير من العرب في الإسلام لما رأوا من نصرة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وإعزاز دينه (1) ثم جاءت بعد غزوة تبوك السرايا المزامنة لها لتكون وسيلة في بسط نفوذ المسلمين على جزيرة العرب ، وإظهار قوة الإسلام وأهله ، وإبطال كيد الذين يتربصون بالإسلام الدوائر (2) وقد أشار ابن حجر إلى دور هذه السرايا والغزوات في نشر الدين ، ودحض الكفر فقال : " قال ابن دقيق العيد : القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل ، لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره ، وإخماد الكفر ودحضه " (3) .
_________
(1) انظر : د . محمد أبو شهبة ، السيرة النبوية 471 .
(2) انظر : صفي الرحمن المباركفوري ، الرحيق المختوم ، ص 412 .
(3) ابن حجر ، فتح الباري 7 / 80 .
إضافة إلى ذلك كله فقد كانت تلك السرايا والغزوات بمجموعها وسيلة دعوية مهمة لما تحدثه من أثر في نفوس الأسرى الذين يمن عليهم صلى الله عليه وسلم ، فيكون لحسن تعامله معهم وعظيم منه عليهم عظيم الأثر في دخولهم الإسلام (1) وهي وسيلة دعوية لما تحدثه من تساؤل لدى تلك القبائل العربية المنتشرة حول الدعوة الجديدة وقيادتها ، فيكون نتيجة هذا التساؤل معرفة الإسلام ، والدخول فيه (2) .
_________
(1) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 8 / 421 .
(2) انظر : د . سيد محمد ساداتي الشنقيطي ، مفاهيم إعلامية من القرآن الكريم ص 78 .
المبحث الثالث
الكتب والرسائل
بعد أن أدت تلك السرايا والغزوات دورا هامًّا في إظهار قوة المسلمين ، وإرهاب أعدائهم ، والقضاء على صناديد الكفر والطغيان ، جاءت الكتب والرسائل بعد صلح الحديبية ، لتؤدِّي دورًا في نقل الدعوة إلى خارج محيط العرب ولتكون وسيلة هامة لإسماع الناس نبأ الدعوة ، وقد كان بعضهم يجهلها مثل كسرى ، وبعضهم ينتظرها مثل قيصر (1) ، فجاءت هذه الوسيلة بعد أن أصبحت دولة الإسلام أقوى دولة في محيطها ، بعد أن هادنتها قريش ، لذا اشتملت بعض هذه الرسائل على التهديد بزوال الملك لمن لم يدخل في الإسلام (2) .
جاء ذكر هذه الوسيلة في كثير من كتب السير والسنن (3) ، وسأكتفي بما ورد في الصحيحين ، فقد روى مسلم عن أنس رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي ، وإلى كل جبار ، يدعوهم إلى الله تعالى » (4) .
_________
(1) انظر : صالح الشامي ، من معين السيرة ص 362 .
(2) انظر : محمد زكي الدين محمد قاسم ، الدعوة إلى الله فقهًا ومنهجًا ، ص 286 .
(3) انظر : ابن هشام ، السيرة النبوية ، 3 / 188 ، وانظر : ابن قيم الجوزية ، زاد المعاد 3 / 688 ، 697 .
(4) صحيح مسلم ، كتاب الجهاد والسير ، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله (ك 22 ح 1744) 3 / 1397 .
فدل هذا الحديث على مكاتبته صلى الله عليه وسلم للكفار واتخاذ الكتاب في دعوتهم إلى الإسلام (1) ، وفيما يلي نص كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما أورده البخاري : « بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }» (2)
، فكان هذا الكتاب وأمثاله وسيلته صلى الله عليه وسلم في دعوة هؤلاء القوم ، وتبليغهم الإسلام ، أشار إلى ذلك ابن حجر بقوله : " وفي الحديث الدعاء إلى الإسلام بالكلام والكتابة " (3) .
_________
(1) انظر : النووي ، شرح صحيح مسلم 12 / 113 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب بدء الوحي ، باب كيف أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (ك 1ح 7) 1 / 7 ، 8 .
(3) ابن حجر ، فتح الباري 6 / 209 .
وروى البخاري أيضًا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين يدفعه عظيم البحرين إلى كسرى . . . » الحديث (1) فدلت هذه النصوص على عمله صلى الله عليه وسلم بالكتاب ، واتخاذه وسيلة دعوية لتبليغ من لم تبلغهم الدعوة .
وقد اتخذ صلى الله عليه وسلم كافة الأسباب المؤدية إلى نجاح هذه الوسيلة ، فاختار دعاة مخصوصين لحمل هذه الكتب يستطيعون بيان الدعوة والدفاع عنها حين يسألون (2) واختار صلى الله عليه وسلم خاتمًا من فضة (3) يختم به تلك الرسائل حين علم أنهم لا يقرءون كتابًا إلا مختوما (4) .
والذي يحسن ملاحظته أن وسيلة الكتب والرسائل أفادت كثيرًا في تبليغ الدعوة (5) ، فقد كانت سببًا في إسلام بعض ممن كتب إليهم صلى الله عليه وسلم (6) ، فهي إذا وسيلة دعوية صالحة لكل عصر ، متى ما قام بها من يستطيع البيان والبلاغ أفادت الدعوة الإسلامية كثيرا (7) .
_________
(1) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الجهاد ، باب دعوة اليهود والنصارى ، (ك 6 ح 2780) ، 3 / 1074 .
(2) انظر : د . أحمد غلوش ، الدعوة الإسلامية ص 423 .
(3) فقد روى البخاري عن قتادة قال : سمعت أنسا رضي الله عنه يقول : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم ، قيل له : إنهم لا يقرءون كتابا إلا أن يكون مختوما ، فاتخذ خاتمًا من فضة ، فكأني أنظر إلى بياضه في يده ، ونقش فيه محمد رسول الله « أخرجه البخاري في كتاب الجهاد ، باب دعوة اليهود والنصارى ، وعلى ما تكون عليه ، وما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر ، والدعوة قبل القتال 3 / 1074 .
(4) انظر : صالح أحمد الشامي ، من معين السيرة ، ص 359 .
(5) انظر : د . أحمد غلوش ، الدعوة الإسلامية ص 423 .
(6) انظر : ابن قيم الجوزية ، زاد المعاد 3 / 692 - 696 .
(7) انظر : د . أحمد غلوش ، الدعوة الإسلامية ص 453 ، وانظر : د . خليفة عسال ، معالم الدعوة الإسلامية في عهدها المدني ، ص 385 .
المبحث الرابع
الوفود والبعوث
مما لا شكّ فيه أن وسيلتي السرايا والغزوات والكتب والرسائل كان لهما دور بارز في الدفاع عن الدعوة ، وإلزام الناس بالانقياد لها ، وتبليغ الدعوة إلى الآفاق ، فكانت نتيجة ذلك أن جاءت الوفود تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام قال سبحانه : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }{ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا }{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } (1) فاتخذ صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الوفود وسيلة تعليمية حيث بعثهم لتعليم أقوامهم ، وتبليغهم أحكام الدين ، كما بعث صلى الله عليه وسلم طائفة من فقهاء أصحابه للقيام بهذه المهمة ، وفيما يلي بعض التفصيل حول وسيلة الوفود والبعوث .
_________
(1) سورة النصر .
أولًا : الوفود : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله توقّف غالب العرب عن اتباعه ، وقالوا : ننظر ما يصنع قومه ، فلما فتح صلى الله عليه وسلم مكة ، وأسلمت قريش ، تبعتهم العرب (1) يقول ابن إسحاق : " لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف ، وبايعت ، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه " (2) ، فعرف هذا العام - وهو العام التاسع من الهجرة - بعام الوفود ، لكثرة من وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان من كمال حكمته صلى الله عليه وسلم أن أحسن استقبال تلك الوفود ، وتلطف في دعوتهم ، وعلمهم أمور دينهم ، ثم كلفهم دعوة من وراءهم ، فكانوا وسيلته صلى الله عليه وسلم في تبليغ أقوامهم .
فقد كلف صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس حفظ ما علمهم به من أمور الدين ، وإخبار من ورائهم ، فقال : « احفظوهن ، وأخبروا بهن من وراءكم » (3) ، وقوله : « من وراءكم » يشمل من جاءوا من عندهم باعتبار المكان ، ويشمل أولادهم وأحفادهم باعتبار الزمان (4) ، وكانت وفادة هذا الوفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم للمرة الثانية سنة الوفود (5) .
_________
(1) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 7 / 216 .
(2) ابن كثير ، السيرة النبوية 4 / 76 .
(3) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الإيمان ، باب أداء الخمس من الإيمان (ك 2 ح 53) 1 29 .
(4) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 1 / 183 .
(5) انظر : ابن حجر ( المرجع السابق ) 8 / 417 .
وقد أورد البخاري قصة وفد بني تميم وقدوم الأشعريين وأهل اليمن ، وقصة وفد طيء ، وحديث عدي بن حاتم ، وكل هؤلاء وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سنة الوفود (1) فأحسن استقبالهم ، وعلّمهم ، وبعثهم دعاة إلى أقوامهم وقد فصّلت كتب السير في الوفود الذين وفدوا عليه صلى الله عليه وسلم وكيف اتّخذ صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الوفود وسيلة بلاغية تعليمية .
مما يدل على ذلك ما رواه الإمام البخاري عن مالك بن الحويرث قال : « أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي ، فأقمنا عنده عشرين ليلة ، وكان رحيمًا رفيقًا ، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال : ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم » . ففي هذا الحديث دلالة صريحة على اتخاذه صلى الله عليه وسلم هؤلاء الوفد وسيلة تعليمية حيث كلفهم بتعليم أهاليهم فقال : « فكونوا فيهم وعلموهم » .
ثانيا : البعوث :
_________
(1) انظر : ابن حجر ، (المرجع السابق) 8 / 432 .
بعث صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة عددًا من فقهاء أصحابه إلى شتى الجهات ، وخاصة جنوب الجزيرة ، للقيام بمهمة تعليم الناس أمور دينهم ، حيث أصبحت الحاجة ماسة إلى معلمين ودعاة (1) ، من هؤلاء الدعاة أبو عبيدة بن الجراح ، فقد بعثه صلى الله عليه وسلم مع وفد أهل نجران كما روى ذلك البخاري ، عن حذيفة رضي الله عنه قال : « جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ابعث لنا رجلًا أمينًا ، فقال : " لأبعثن إليكم رجلًا أمينًا حق أمين " فاستشرف له الناس فبعث أبا عبيدة بن الجراح » (2) فبعثه صلى الله عليه وسلم مبلِّغًا ومعلمًا ، يقول ابن حجر " وفيه بعث الإمام الرجل الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام " (3) .
_________
(1) انظر : د . محمد سعيد البوطي ، فقه السيرة النبوية ، ص 471 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب قصة أهل نجران (ك 67 ح 4119) 4 / 1592 .
(3) ابن حجر ، فتح الباري 8 / 429 .
وروى البخاري أيضا ، عن أبي بردة قال : « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن ، قال : وبعث كل واحد منهما على مخلاف ، قال : واليمن مخلافان ، ثم قال : يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا » . . . " الحديث (1) ، فكانت مهمة كل واحد منهما تعليمية قضائية ، وكذلك كانت مهمة معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن الدعوة والتعليم ، فقد أوصاه صلى الله عليه وسلم بقوله : « إنّك تقدم على قوم من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم أن يوحدوا الله تعالى . . . . » (2) ، فكانت وصيته صلى الله عليه وسلم أن يبدأهم بالدعوة إلى الإسلام فإن أسلموا علّمهم الإسلام ، واقتصرت بعثته على التعليم والهداية (3) .
فدلّت هذه النصوص على أنه صلى الله عليه وسلم اختار طائفة من فقهاء صحابته ، وبعثهم ليكونوا وسيلة دعوية تقوم بمهمة تعليم الناس أمور دينهم (4) .
والذي ينبغي معرفته أن السفر وبعث البعوث للقيام بمهمة الدعوة إلى الله هي مسؤولية المسلمين في كل عصر ، وهي إحدى الوسائل المساعدة على القيام بهذا الواجب العظيم (5) .
_________
(1) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع (ك 67 ح 4186 ) ، 4 / 1578 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب التوحيد ، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى (ك100 ص6937) ، 6 / 2685 .
(3) انظر : الشيخ محمد أبو زهرة ، خاتم النبيين 2 / 1405 .
(4) انظر : أبو زهرة ، (المرجع السابق) 2 / 1405 .
(5) انظر : د . محمد سعيد البوطي ، فقه السيرة النبوية ، ص 473 .
التدرج في الدعوة باعتبار الوسيلة
وفيه تمهيد وأربعة مباحث :
المبحث الأول : القول
المبحث الثاني : السرايا والغزوات
المبحث الثالث : الكتب والرسائل
المبحث الرابع : الوفود والبعوث
تمهيد
بينت في الفصل الأول التدرُّج في موضوع الدعوة فذكرت التوحيد وأهمية البدء به ، ثم عقبت ببيان الشريعة وصلتها بالتوحيد وأهمية التدرج في الدعوة إليها ، وفي هذا الفصل سوف أبين الوسيلة النبوية التي من خلالها تم عرض هذا الموضوع ، فلكل موضوع فكرة ووسيلة ، والداعية له وسائله العديدة في إيصال دعوته وتبليغها للناس ، ولكل وسيلة زمانها ومكانها الملائم لها ، فمن الوسائل ما يصلح لزمان ولا يصلح لزمان آخر ، وقد تكون هذه الوسيلة مثمرة لكنها في وقت آخر تصبح مثار سخرية واستهزاء (1) .
_________
(1) د . زيد بن عبد الكريم الزيد ، الحكمة في الدعوة إلى الله ص 89 .
وبعد تأملي لسيرته صلى الله عليه وسلم العطرة تبينت أن وسائله عليه الصلاة والسلام في تبليغ الدعوة وحمايتها قد جاءت متدرجة كأنها حلقات في سلسلة ، كل حلقة تقود إلى التي تليها فأظهرت لنا هذه الوسائل طبيعة التدرج في السير خطوة خطوة ، فبدأ صلى الله عليه وسلم بوسيلة القول واستمرت هذه الوسيلة طيلة العهد المكي ، ثم لما هاجر صلى الله عليه وسلم حيث الجماعة المسلمة وأقام دولة الإسلام اتخذ وسيلة لحماية هذه الجماعة وتلك الدولة وهي السرايا والغزوات ، اتخذها صلى الله عليه وسلم للدفاع عن الدعوة وحمايتها من المعتدين ، ثم بعد أن هادن العدو في الحديبية اتخذ وسيلة بلاغية وهي الكتب والرسائل ، اتخذها لتبليغ الدعوة إلى العالم الخارجي ، ثم كانت آخر وسائله صلى الله عليه وسلم بعث البعوث ليقوموا بمهمة البلاغ والتعليم ، وفيما يلي التفصيل في هذه الوسائل .
المبحث الأول
القول
تبرز أهمية وسيلة القول من حيث إنَّها وسيلة فطرية متوفرة لدى الناس إلا من شذّ بسبب خرس أو نحوه (1) ، ويبرز القول وسيلة دعوية من حيث اهتمام القرآن الكريم به فقد ورد لفظ : " قل " في أكثر من ثلاثمائة آية (2) من ذلك قوله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } (3) { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } (4) { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } (5) { قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } (6) { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (7) ، وما من رسول إلا قال لقومه شيئا ، وبين لهم ، ولذا اقتضت حكمة الحكيم العليم أن يبعث كل رسول بلغة قومه ( قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (9) فالبيان بالقول هو وسيلة الرسل عليهم السلام في دعوتهم (10) وهو وسيلة النبي صلى الله عليه وسلم الأصلية والأساسية في عرض دعوته في العهد المكي (11) ، وحين تأملي لسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم في هذا العهد تبين لي مصداق ذلك ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته سرًّا بالقول ، ثم لما نزل قوله
_________
(1) د . محمد أبو الفتح البيانوني ، المدخل إلى علم الدعوة ص 311 .
(2) انظر : د . البيانوني ، ص 311 .
(3) سورة الإخلاص ، الآية : 1 .
(4) سورة الكافرون ، الآية : 1 .
(5) سورة النساء ، الآية : 63 .
(6) سورة طه ، الآية : 45 .
(7) سورة فصلت ، الآية : 33 .
( انظر : د . البيانوني ، المدخل إلى علم الدعوة ، ص 311 .
(9) سورة إبراهيم ، الآية : 4 .
(10) انظر د . عبد الكريم زيدان ، أصول الدعوة ص 471 .
(11) انظر د . حسن عيسى عبد الظاهر ، فصول في الدعوة الإسلامية ص 87 .
تعالى { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } (1) جهر صلى الله عليه وسلم بالقول فقام خطيبا على جبل الصفا ينذر قريشا ويدعوهم إلى الله (2) « ودعا عليه الصلاة والسلام عمه أبا طالب قائلًا له : أي عم ، قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله » (3) .
_________
(1) سورة الحجر ، الآية : 94 .
(2) انظر مسفر البواردي ، أسس الدعوة في سورة إبراهيم عليه السلام ص 86 .
(3) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب : ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (ك 68 ح 4494) 4 / 1788 ، 1789 .
ومما يؤكد أن وسيلته صلى الله عليه وسلم في هذا العهد القول حديث إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه ، فقد روى مسلم عن أبي أمامة قال : « قال عمرو بن عبسة السلمي : كنت وأنا في الجاهلية أظن الناس على ضلالة ، وأنهم ليسوا على شيء ، وهم يعبدون الأوثان ، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا ، فقعدت على راحلتي ، فقدمت عليه ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا جرآء عليه قومه ، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له : ما أنت ؟ قال : " أنا نبي " ، فقلت : وما نبي ؟ قال : " أرسلني الله " فقلت : وبأي شيء أرسلك ؟ قال : " أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء . . . » (1) فقوله : " فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا " هذا الحوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين هذا الرجل يبين أن وسيلته عليه الصلاة والسلام في دعوة هذا الرجل هي القول ، فلم يتجاوز عليه الصلاة والسلام القول إلى سواه يدل على ذلك قوله للرجل حينما قال إني متبعك : " إنك لا تستطيع يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني " فالقول هو وسيلته صلى الله عليه وسلم في الدعوة في هذا العهد ، من بدايته
_________
(1) مسلم ، صحيح مسلم ، كتاب الصلاة ، باب إسلام عمرو بن عبسة (ك 6 ح 294) 1 / 569 .
إلى نهايته ، فحينما خرج إلى الطائف دعاهم إلى الله بالقول ، يقول ابن إسحاق : " لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر ثقيف . . . فدعاهم إلى الله ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه . . " (1) ، وحينما أمره الله بعرض نفسه على القبائل ، كان يدعوهم بالقول ، يقول ابن إسحاق : " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره ، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الإسلام ، ويعرض عليهم نفسه ، وما جاء به من الهدى والرحمة . . . " (2) .
_________
(1) ابن هشام ، السيرة النبوية ، 2 / 47 ، 48 .
(2) المرجع السابق ، 2 / 52 .
وبالقول استطاع صلى الله عليه وسلم إقناع وفد الأنصار بدعوة الحق حين التقى بهم فقد قال لهم كما يروي ابن إسحاق : " أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن " (1) ، وكان القول وسيلة مبعوثيه صلى الله عليه وسلم في إقناع مدعويهم ، فقد قال مصعب بن عمير وهو مبعوثه صلى الله عليه وسلم إلى يثرب لزعيمي بني عبد الأشهل : " أو تقعد فتسمع ، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته ، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ؟ " (2) ، هذه النصوص تبين لنا أن القول هو الأصل في وسائل الدعوة إلى الله تعالى وهو الوسيلة الأولى والأصيلة في إيصال الحق إلى المدعوين (3) .
_________
(1) المرجع السابق 2 / 54 .
(2) ابن هشام ، المرجع السابق 2 / 59 .
(3) انظر : د . زيدان ، أصول الدعوة ص 471 ، وانظر : وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الموسوعة الفقهية 20 / 332 ، 333 .
المبحث الثاني
السرايا والغزوات
بعد أن أدّى القول دوره وسيلة بلاغية في العهد المكي قامت به الحجة على المشركين شرع الله الهجرة لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم شرع له القتال بالسيف وأنزل الحديد لينصر به الحق ويقيم به العدل ، وليكون رادعًا لكل من أبى الحق ، ولم يقبل شرع الله (1) قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } (2) فبين أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل ، وما به يعرف العدل ليقوم الناس بالقسط ، وأنزل الحديد ، فمن خرج عن الكتاب والميزان قوتل بالحديد (3) والمقصود به آلات الجهاد كالسيف والرمح والنصل والدرع ، ونحو ذلك من طائرات ومدافع ودبابات (4) فأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم باتخاذ كافة أسباب القوة (5) فقال سبحانه : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } (6) ، وقد فقه صلى الله عليه وسلم هذه التوجيهات الإلهية الكريمة فاتخذ السرايا والغزوات لتكون وسيلة دعوية هامة ، تقوم على حماية الدعوة من اعتداء المعتدين ، لما تحدثه من أثر كبير في إرهاب العدو وتحييده وزعزعة ثقته (7) فغزا صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة يدل على ذلك ما
_________
(1) انظر : ابن تيمية ، مجموع الفتاوى 18 / 157 ، 35 / 36 .
(2) سورة الحديد ، الآية : 25 .
(3) ابن تيمية ، مجموع الفتاوى 35 / 366 .
(4) انظر : ابن تيمية 12 / 135 ، وانظر : السعدي ، تيسير الكريم الرحمن ، 3 / 183 .
(5) انظر : محمد رشيد رضا ، تفسير المنار ، 10 / 61 .
(6) سورة الأنفال ، الآية : 60 .
(7) انظر : د . محمد بن مخلف المخلف ، الحرب النفسية ، ص 304 .
رواه البخاري « عن أبي إسحاق كنت إلى جنب زيد بن أرقم ، فقيل له : كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة ؟ قال : تسع عشرة ، قيل : كم غزوت أنت معه ؟ قال : سبع عشرة . . . » (1) ، فكانت أولى هذه الغزوات غزوة الأبواء ، حيث خرج صلى الله عليه وسلم يريد قريشًا فوادع بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة من كنانة ، وادعه رئيسهم مجدي بن عمرو الضمري (2) ، ثم غزا صلى الله عليه وسلم غزوة بواط ، ووادع فيها بني مدلج من كنانة (3) وأرسل صلى الله عليه وسلم عددًا من السرايا ، منها سرية عبد الله بن جحش التي غنمت عيرًا لقريش بعد ما قتلت بعض أهلها ، وأسرت الباقين (4) وقد أدت هذه الغزوات والسرايا دورًا كبيرًا في إرهاب العدو وتحييده .
_________
(1) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة العشيرة ، أو العسيرة ، (ك 67 ح 3733) 4 / 1453 .
(2) انظر : ابن هشام ، السيرة النبوية ، 2 / 170 ، 171 ، وانظر : ابن حجر ، فتح الباري 8 / 4 .
(3) انظر : ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 176 ، 177 ، وانظر : ابن حجر ، فتح الباري 8 / 4 .
(4) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 8 / 4 .
ثم كانت بعد ذلك غزوة بدر الكبرى ، وأحد ، والأحزاب ، وقد كان لهذه الغزوات أثر كبير في دفع الهجوم عن دار الهجرة ، ومنع اعتداء المعتدين ثم جاءت غزوات الحديبية وخيبر والفتح وحنين والسرايا المزامنة لها فكانت وسائل في إلزام قريش واليهود والعرب الخضوع للقيادة الإسلامية ، ودخول كثير من العرب في الإسلام لما رأوا من نصرة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وإعزاز دينه (1) ثم جاءت بعد غزوة تبوك السرايا المزامنة لها لتكون وسيلة في بسط نفوذ المسلمين على جزيرة العرب ، وإظهار قوة الإسلام وأهله ، وإبطال كيد الذين يتربصون بالإسلام الدوائر (2) وقد أشار ابن حجر إلى دور هذه السرايا والغزوات في نشر الدين ، ودحض الكفر فقال : " قال ابن دقيق العيد : القياس يقتضي أن يكون الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل ، لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره ، وإخماد الكفر ودحضه " (3) .
_________
(1) انظر : د . محمد أبو شهبة ، السيرة النبوية 471 .
(2) انظر : صفي الرحمن المباركفوري ، الرحيق المختوم ، ص 412 .
(3) ابن حجر ، فتح الباري 7 / 80 .
إضافة إلى ذلك كله فقد كانت تلك السرايا والغزوات بمجموعها وسيلة دعوية مهمة لما تحدثه من أثر في نفوس الأسرى الذين يمن عليهم صلى الله عليه وسلم ، فيكون لحسن تعامله معهم وعظيم منه عليهم عظيم الأثر في دخولهم الإسلام (1) وهي وسيلة دعوية لما تحدثه من تساؤل لدى تلك القبائل العربية المنتشرة حول الدعوة الجديدة وقيادتها ، فيكون نتيجة هذا التساؤل معرفة الإسلام ، والدخول فيه (2) .
_________
(1) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 8 / 421 .
(2) انظر : د . سيد محمد ساداتي الشنقيطي ، مفاهيم إعلامية من القرآن الكريم ص 78 .
المبحث الثالث
الكتب والرسائل
بعد أن أدت تلك السرايا والغزوات دورا هامًّا في إظهار قوة المسلمين ، وإرهاب أعدائهم ، والقضاء على صناديد الكفر والطغيان ، جاءت الكتب والرسائل بعد صلح الحديبية ، لتؤدِّي دورًا في نقل الدعوة إلى خارج محيط العرب ولتكون وسيلة هامة لإسماع الناس نبأ الدعوة ، وقد كان بعضهم يجهلها مثل كسرى ، وبعضهم ينتظرها مثل قيصر (1) ، فجاءت هذه الوسيلة بعد أن أصبحت دولة الإسلام أقوى دولة في محيطها ، بعد أن هادنتها قريش ، لذا اشتملت بعض هذه الرسائل على التهديد بزوال الملك لمن لم يدخل في الإسلام (2) .
جاء ذكر هذه الوسيلة في كثير من كتب السير والسنن (3) ، وسأكتفي بما ورد في الصحيحين ، فقد روى مسلم عن أنس رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي ، وإلى كل جبار ، يدعوهم إلى الله تعالى » (4) .
_________
(1) انظر : صالح الشامي ، من معين السيرة ص 362 .
(2) انظر : محمد زكي الدين محمد قاسم ، الدعوة إلى الله فقهًا ومنهجًا ، ص 286 .
(3) انظر : ابن هشام ، السيرة النبوية ، 3 / 188 ، وانظر : ابن قيم الجوزية ، زاد المعاد 3 / 688 ، 697 .
(4) صحيح مسلم ، كتاب الجهاد والسير ، باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله (ك 22 ح 1744) 3 / 1397 .
فدل هذا الحديث على مكاتبته صلى الله عليه وسلم للكفار واتخاذ الكتاب في دعوتهم إلى الإسلام (1) ، وفيما يلي نص كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما أورده البخاري : « بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }» (2)
، فكان هذا الكتاب وأمثاله وسيلته صلى الله عليه وسلم في دعوة هؤلاء القوم ، وتبليغهم الإسلام ، أشار إلى ذلك ابن حجر بقوله : " وفي الحديث الدعاء إلى الإسلام بالكلام والكتابة " (3) .
_________
(1) انظر : النووي ، شرح صحيح مسلم 12 / 113 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب بدء الوحي ، باب كيف أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (ك 1ح 7) 1 / 7 ، 8 .
(3) ابن حجر ، فتح الباري 6 / 209 .
وروى البخاري أيضًا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين يدفعه عظيم البحرين إلى كسرى . . . » الحديث (1) فدلت هذه النصوص على عمله صلى الله عليه وسلم بالكتاب ، واتخاذه وسيلة دعوية لتبليغ من لم تبلغهم الدعوة .
وقد اتخذ صلى الله عليه وسلم كافة الأسباب المؤدية إلى نجاح هذه الوسيلة ، فاختار دعاة مخصوصين لحمل هذه الكتب يستطيعون بيان الدعوة والدفاع عنها حين يسألون (2) واختار صلى الله عليه وسلم خاتمًا من فضة (3) يختم به تلك الرسائل حين علم أنهم لا يقرءون كتابًا إلا مختوما (4) .
والذي يحسن ملاحظته أن وسيلة الكتب والرسائل أفادت كثيرًا في تبليغ الدعوة (5) ، فقد كانت سببًا في إسلام بعض ممن كتب إليهم صلى الله عليه وسلم (6) ، فهي إذا وسيلة دعوية صالحة لكل عصر ، متى ما قام بها من يستطيع البيان والبلاغ أفادت الدعوة الإسلامية كثيرا (7) .
_________
(1) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الجهاد ، باب دعوة اليهود والنصارى ، (ك 6 ح 2780) ، 3 / 1074 .
(2) انظر : د . أحمد غلوش ، الدعوة الإسلامية ص 423 .
(3) فقد روى البخاري عن قتادة قال : سمعت أنسا رضي الله عنه يقول : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم ، قيل له : إنهم لا يقرءون كتابا إلا أن يكون مختوما ، فاتخذ خاتمًا من فضة ، فكأني أنظر إلى بياضه في يده ، ونقش فيه محمد رسول الله « أخرجه البخاري في كتاب الجهاد ، باب دعوة اليهود والنصارى ، وعلى ما تكون عليه ، وما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر ، والدعوة قبل القتال 3 / 1074 .
(4) انظر : صالح أحمد الشامي ، من معين السيرة ، ص 359 .
(5) انظر : د . أحمد غلوش ، الدعوة الإسلامية ص 423 .
(6) انظر : ابن قيم الجوزية ، زاد المعاد 3 / 692 - 696 .
(7) انظر : د . أحمد غلوش ، الدعوة الإسلامية ص 453 ، وانظر : د . خليفة عسال ، معالم الدعوة الإسلامية في عهدها المدني ، ص 385 .
المبحث الرابع
الوفود والبعوث
مما لا شكّ فيه أن وسيلتي السرايا والغزوات والكتب والرسائل كان لهما دور بارز في الدفاع عن الدعوة ، وإلزام الناس بالانقياد لها ، وتبليغ الدعوة إلى الآفاق ، فكانت نتيجة ذلك أن جاءت الوفود تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام قال سبحانه : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }{ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا }{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } (1) فاتخذ صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الوفود وسيلة تعليمية حيث بعثهم لتعليم أقوامهم ، وتبليغهم أحكام الدين ، كما بعث صلى الله عليه وسلم طائفة من فقهاء أصحابه للقيام بهذه المهمة ، وفيما يلي بعض التفصيل حول وسيلة الوفود والبعوث .
_________
(1) سورة النصر .
أولًا : الوفود : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله توقّف غالب العرب عن اتباعه ، وقالوا : ننظر ما يصنع قومه ، فلما فتح صلى الله عليه وسلم مكة ، وأسلمت قريش ، تبعتهم العرب (1) يقول ابن إسحاق : " لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف ، وبايعت ، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه " (2) ، فعرف هذا العام - وهو العام التاسع من الهجرة - بعام الوفود ، لكثرة من وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان من كمال حكمته صلى الله عليه وسلم أن أحسن استقبال تلك الوفود ، وتلطف في دعوتهم ، وعلمهم أمور دينهم ، ثم كلفهم دعوة من وراءهم ، فكانوا وسيلته صلى الله عليه وسلم في تبليغ أقوامهم .
فقد كلف صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس حفظ ما علمهم به من أمور الدين ، وإخبار من ورائهم ، فقال : « احفظوهن ، وأخبروا بهن من وراءكم » (3) ، وقوله : « من وراءكم » يشمل من جاءوا من عندهم باعتبار المكان ، ويشمل أولادهم وأحفادهم باعتبار الزمان (4) ، وكانت وفادة هذا الوفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم للمرة الثانية سنة الوفود (5) .
_________
(1) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 7 / 216 .
(2) ابن كثير ، السيرة النبوية 4 / 76 .
(3) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الإيمان ، باب أداء الخمس من الإيمان (ك 2 ح 53) 1 29 .
(4) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 1 / 183 .
(5) انظر : ابن حجر ( المرجع السابق ) 8 / 417 .
وقد أورد البخاري قصة وفد بني تميم وقدوم الأشعريين وأهل اليمن ، وقصة وفد طيء ، وحديث عدي بن حاتم ، وكل هؤلاء وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سنة الوفود (1) فأحسن استقبالهم ، وعلّمهم ، وبعثهم دعاة إلى أقوامهم وقد فصّلت كتب السير في الوفود الذين وفدوا عليه صلى الله عليه وسلم وكيف اتّخذ صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الوفود وسيلة بلاغية تعليمية .
مما يدل على ذلك ما رواه الإمام البخاري عن مالك بن الحويرث قال : « أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي ، فأقمنا عنده عشرين ليلة ، وكان رحيمًا رفيقًا ، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال : ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم » . ففي هذا الحديث دلالة صريحة على اتخاذه صلى الله عليه وسلم هؤلاء الوفد وسيلة تعليمية حيث كلفهم بتعليم أهاليهم فقال : « فكونوا فيهم وعلموهم » .
ثانيا : البعوث :
_________
(1) انظر : ابن حجر ، (المرجع السابق) 8 / 432 .
بعث صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة عددًا من فقهاء أصحابه إلى شتى الجهات ، وخاصة جنوب الجزيرة ، للقيام بمهمة تعليم الناس أمور دينهم ، حيث أصبحت الحاجة ماسة إلى معلمين ودعاة (1) ، من هؤلاء الدعاة أبو عبيدة بن الجراح ، فقد بعثه صلى الله عليه وسلم مع وفد أهل نجران كما روى ذلك البخاري ، عن حذيفة رضي الله عنه قال : « جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ابعث لنا رجلًا أمينًا ، فقال : " لأبعثن إليكم رجلًا أمينًا حق أمين " فاستشرف له الناس فبعث أبا عبيدة بن الجراح » (2) فبعثه صلى الله عليه وسلم مبلِّغًا ومعلمًا ، يقول ابن حجر " وفيه بعث الإمام الرجل الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام " (3) .
_________
(1) انظر : د . محمد سعيد البوطي ، فقه السيرة النبوية ، ص 471 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب قصة أهل نجران (ك 67 ح 4119) 4 / 1592 .
(3) ابن حجر ، فتح الباري 8 / 429 .
وروى البخاري أيضا ، عن أبي بردة قال : « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن ، قال : وبعث كل واحد منهما على مخلاف ، قال : واليمن مخلافان ، ثم قال : يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا » . . . " الحديث (1) ، فكانت مهمة كل واحد منهما تعليمية قضائية ، وكذلك كانت مهمة معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن الدعوة والتعليم ، فقد أوصاه صلى الله عليه وسلم بقوله : « إنّك تقدم على قوم من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم أن يوحدوا الله تعالى . . . . » (2) ، فكانت وصيته صلى الله عليه وسلم أن يبدأهم بالدعوة إلى الإسلام فإن أسلموا علّمهم الإسلام ، واقتصرت بعثته على التعليم والهداية (3) .
فدلّت هذه النصوص على أنه صلى الله عليه وسلم اختار طائفة من فقهاء صحابته ، وبعثهم ليكونوا وسيلة دعوية تقوم بمهمة تعليم الناس أمور دينهم (4) .
والذي ينبغي معرفته أن السفر وبعث البعوث للقيام بمهمة الدعوة إلى الله هي مسؤولية المسلمين في كل عصر ، وهي إحدى الوسائل المساعدة على القيام بهذا الواجب العظيم (5) .
_________
(1) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع (ك 67 ح 4186 ) ، 4 / 1578 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب التوحيد ، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى (ك100 ص6937) ، 6 / 2685 .
(3) انظر : الشيخ محمد أبو زهرة ، خاتم النبيين 2 / 1405 .
(4) انظر : أبو زهرة ، (المرجع السابق) 2 / 1405 .
(5) انظر : د . محمد سعيد البوطي ، فقه السيرة النبوية ، ص 473 .
ابو عمر المصرى-
- الجنس :
عدد المساهمات : 51
نقاط : 9876
تاريخ التسجيل : 27/06/2011
رد: التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم
مشكور أخي نسأل الله أن ينفعك بما افدتنا به
ـــــــ-ــــــ-ـــــ-ـــــ-ــــــ-ـــــــ-ـــــ-ــــ-ــــــ-ــــــ-ـــــــ-ـــــــ-ـــــــ-
التوقيع
إني تذكــــرت والذكـــــرى مؤرقــة ******* مجداً تليداً بأيدينا أضعنـــــــــــــاه
ويح العروبة كان الكون مسرحهــا ******* فأصبحت تتوارى في زوايـــــــــــاه
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد ******* تجده كالطير مقصوصاً جناحـــــاه
كم صرّفتنا يدٌ كنا نُصرّفهــــــــــا ******* وبات يحكمنا شعب ملكنــــــــــاه
يا من رأى عمر تكســــــوه بردته ******* والزيت أدم له والكوخ مـــــــــــأواه
يهتز كسرى على كرسيــــه فرقاً ******* من بأسه وملوك الروم تخشــــاه
سل المعاني عنا إننا عــــــــــرب ******* شعارنا المجد يهوانا ونهــــــــــواه
استرشد الغرب بالماضي فأرشـده ******* ونحن كان لنا ماض نسينـــــــــاه
إنّا مشينا وراء الغرب نقتبس مـــن ******* ضيائه فأصابتنا شظــايــــــــــــــاه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب ******* بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهوا
Zico-
- الجنس :
عدد المساهمات : 10514
نقاط : 20937
تاريخ التسجيل : 28/05/2011
. :
. :
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أمس في 20:28 من طرف larbi
» تخاذل أمّة
الجمعة 15 نوفمبر - 20:46 من طرف علي عبد الله البسامي
» ترياق الهَذَر
السبت 9 نوفمبر - 0:32 من طرف علي عبد الله البسامي
» تحية لفرسان لبنان
الجمعة 1 نوفمبر - 23:43 من طرف علي عبد الله البسامي
» أشجان عربية
الجمعة 25 أكتوبر - 22:54 من طرف علي عبد الله البسامي
» فلنحم وجودنا
الإثنين 21 أكتوبر - 22:13 من طرف علي عبد الله البسامي
» وداع الأبطال
الأحد 20 أكتوبر - 10:19 من طرف علي عبد الله البسامي
» بين الدين والاخلاق
الجمعة 18 أكتوبر - 10:36 من طرف علي عبد الله البسامي
» حول مفهوم الحضارة
الجمعة 18 أكتوبر - 10:33 من طرف علي عبد الله البسامي
» فيم تكمن قيمة الانسان ؟؟؟
الجمعة 18 أكتوبر - 10:30 من طرف علي عبد الله البسامي
» حزب المجد
الخميس 17 أكتوبر - 23:24 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الإقدام
السبت 12 أكتوبر - 13:59 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الى امّتنا
الخميس 10 أكتوبر - 16:49 من طرف علي عبد الله البسامي
» حقيقة الثقافة
الجمعة 20 سبتمبر - 14:56 من طرف علي عبد الله البسامي
» وجعٌ على وجع
الإثنين 16 سبتمبر - 17:28 من طرف علي عبد الله البسامي
» تعاظمت الجراح
الأحد 15 سبتمبر - 17:57 من طرف علي عبد الله البسامي
» بجلوا الابطال
الجمعة 13 سبتمبر - 17:37 من طرف علي عبد الله البسامي
» موقف عز وشرف
الثلاثاء 20 أغسطس - 0:19 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الوفاق
الخميس 8 أغسطس - 18:27 من طرف علي عبد الله البسامي
» رثاء الشهيد اسماعيل هنية
الأربعاء 31 يوليو - 18:37 من طرف علي عبد الله البسامي