المملكة السعودية والاخوان المسلمون: من الرعاية إلى التجريم
صفحة 1 من اصل 1
المملكة السعودية والاخوان المسلمون: من الرعاية إلى التجريم
بقلم: خالد شوكات
لم تتوقّع أشدّ الأطراف عداء لجماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي والإسلامي صدور قرار كذلك الّذي أصدره أواخر شهرفيفري 2014 العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، القاضي بتجريم الانتماء للجماعات والحركات الإرهابية
وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين الّتي طالما اعتمد قادتها على علاقاتهم الوثيقة بالمملكة في مواجهة سائر الأزمات الّتي اعترضت سبيلهم منذ نشأة التنظيم على أيدي الشيخ حسن البنّا سنة 1928، وهو ما أثار موجة من التساؤلات العميقة حول دلالات الإجراء السعودي غير المسبوق، وتأثيراته المحتملة داخليا على الأوضاع في المملكة نفسها، وخارجيا في مشهد المنطقة الخليجية والعربية والإسلامية برمّتها.
لقد بدأت السلطات السعودية عمليّا في تنفيذ القرار الملكي منذ يوم 8 مارس 2014، بمنع نشطاء الإخوان المسلمين سواء من داخل المملكة أو خارجها، من ممارسة أي أنشطة علنية، بما في ذلك المشاركة في مؤتمرات وندوات علمية، كما وزّعت وزارة الداخلية أوامر على المعابر الحدودية للبلاد بعدم السماح للقيادات الإخوانية، خصوصا الفارّة من مصر المجاورة بالدخول إلى أراضيها، فضلا عن تدشينها حملات ملاحقة أمنية لخلايا الجماعة، خصوصا تلك المشاركة في الحرب السورية، أو المساندة لتحرّكات الجماعة الأمّ الاحتجاجية على النظام المصري الجديد الّذي حلّ مكان نظام الرئيس الإخواني المعزول محمّد مرسي العيّاط، وهو ما أكّد جدّية الخطوة الّتي أقدمت الرياض على اتّخاذها تجاه الجماعات الّتي طالما نظرت إليها عدّة أطراف باعتبارها أذرعا للمملكة في المنطقة، ووسائل لتحقيق مخطّطات تشكّل جزء من سياستها الخارجية.
ويرجّح العارفون بالشأن السعودي أن قرار تجريم الجماعات الإرهابية، وتصنيف جماعة الإخوان المسلمين في لائحة هذه الجماعات، يعكس حتما تحوّلا جذريا في السياستين الداخلية والخارجية للمملكة، لا يمكن قراءته بمعزل عن عدّة معطيات وعوامل، بعضها يتّصل بالمتغّيرات المرتبطة بملفّ انتقال السلطة من الجيل الثاني إلى الجيل الثالث من أبناء الملك عبد العزيز آل سعود مؤسّس الدولة، وخاصّة بالعلاقة بين آل عبد العزيز أصحاب السلطة الزمنية وآل الشيخ أصحاب السلطة الدينية، وبعضها وثيق الصلة بما يشهده محيط المملكة في دوائره الثلاث، الخليجية والعربية والإسلامية، من أحداث ووقائع دراماتيكية، خصوصا منذ انفجار ثورات الربيع العربي واندلاع الحروب والأزمات في أكثر من بلد مجاور وقريب، كسوريا ومصر واليمن، ممّا قرّب حبل النّار من السعودية وجعلها شريكا مباشرا في صراعات غير تقليدية.
لقد اعتمدت المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك فيصل سياسة خارجية قوامها أنّ وجود أزمات في محيط المملكة ربّما كان مفيدا في الحفاظ على استقرار أمنها وتماسكها، لكّن الاضطرابات والقلاقل الّتي شهدتها المنطقة منذ نجاح الثورة التونسية في جانفي 2011، زعزع هذه النظرية ودفع بمركز القرار السعودي إلى العمل سريعا من أجل إحداث التغييرات اللازمة على محدّدات السياسة الخارجية، تفاديا لأي انعكاسات عميقة لأحداث المنطقة المجاورة على استقرار الأوضاع الداخلية، ولا يمكن بأي حال قراءة المنع السعودي لجماعة الإخوان المسلمين وتجريم الجماعات والحركات الإسلامية المتطرّفة المتورّطة في أعمال إرهابية إلاّ باعتباره تحوّلا نوعيا في سياسات الرياض، ستكون له انعكاسات كبرى ودلالات جذرية في المستقبل القريب.
لطالما نظر الباحثون في العلاقات الدولية والمتخصّصون في شؤون العالم العربي والإسلامي، لغالبية الجماعات والحركات والأحزاب الإسلامية، بما في ذلك الجماعة الأم حركة الإخوان المسلمين المصرية، باعتبارها جزء من استراتيجية المملكة في المنطقة، فهي تنظر لنفسها من جهة باعتبارها محور العمل الإسلامي والمؤتمن على بقاع المسلمين المقدّسة، وهي ترى من جهة ثانية في هذه الجماعات والحركات الضمانة الكبرى لمواجهة الأفكار والتيّارات المعادية للإسلام والدخيلة على الأمّة، وللإبقاء على ولاء شعوب المنطقة –المعنوي على الأقلّ- لمنظومتها العقائدية والشعائرية الدائرة غالبا حول مرجعية المشروع «الوهّابي» وقدسيّة الطرح «السلفي»، ولم يتبادر إلى ذهن أيّ كان تقريبا أن العلاقة بين المملكة والجماعة ستبلغ يوما مستوى القطيعة، كما لم يخطر ببال أحد أن الجماعات الإرهابية ستقف في لحظة ما في مواجهة مع الدولة الّتي تشترك معها في ذات المرجعية العقائدية، والّتي اعتمدت على مجتمعها الأهلي بالدرجة الأولى في الحصول على التمويلات الضرورية لأنشطتها في مختلف أنحاء العالم، داخل الدائرة الإسلامية وخارجها، وهو ما يتوجّب قراءة متأنّية وعميقة في دوافع هذا التحوّل وانعكاساته المتوقّعة.
في دوافع القرار السعودي
ليس بمقدور باحث في خلفيات القرار السعودي تجريم الجماعات الإرهابية وحظر جماعة الإخوان المسلمين أن يصل إلى تشخيص صحيح لدوافع القرار دون الوقوف على الحقائق التاريخية للعلاقة بين السلطة السياسية في المملكة العربية السعودية ممثّلة بالأساس في أسرة مؤسّس المملكة عبد العزيز آل سعود، الّذي ما يزال أبناؤه يتداولون على العرش إلى اليوم، والحركات الإسلامية الناشطة في مختلف أقاليم البلاد الّتي تكاد مساحتها الشاسعة تبلغ مساحة أوربا الغربية بأكملها، والّتي تأسّست إمّا بفعل حراك داخلي بمبادرات من شخصيات سعودية، أو بفعل التفاعل مع الوافدين من قيادات حركات إسلامية خارجية، سواء لأسباب سياسية تتعلّق بأزمات تعيشها بلدانهم، أو لأسباب أخرى متعدّدة، علمية وعملية وغيرها، خصوصا منذ الستينيات عندما بدأ الاقتصاد السعودي يتحوّل إلى اقتصاد ريعي قائم على النفط والصناعات المشتقّة منه.
تعود العلاقة بين المملكة العربية السعودية وجماعة الإخوان المسلمين إلى فترة تأسيس الجماعة. يقول ثروت الخرباوي في كتابه «سرّ المعبد..الأسرار الخفيّة لجماعة الإخوان المسلمين» ما يلي عن هذه الحقبة التأسيسية:» يبدو أنّ حسن البنّا قد فكّر في إنشاء جماعته وخطّط لها حينما كان شابّا يافعا يطلب العلم في مدرسة دار العلوم، وقد قرأ وقتها الأخبار الّتي أخذت تتواتر من نجد والجزيرة العربية عن جيش الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، الّذي أخذ يساعده في إخضاع الجزيرة العربية له، ليأخذ الحكم عنوة من آل الرشيد، (وقد) أطلق عبد العزيز آل سعود على جيشه «الإخوان» و»إخوان من أطاع الله»، وجعل شعارا لهم السيف وعبارة التوحيد..»(ص180).
وكما تجدر الملاحظة فإنّ التماهي كان واضحا بين شعار المملكة العربية السعودية، السيف وعبارة التوحيد، وشعار جماعة الإخوان المسلمين. وقد عمل قادة الإخوان كما يفصّل الخرباوي في كتابه المذكور ما في وسعهم لإخفاء كلّ صلة مرجعية بينهم وبين الفكرة السلفية الوهّابية السعودية، من باب التأكيد على سلمية أو «لا عنفية» الجماعة»، بل استعدادها اللاّمشروط للانخراط في السياق الديمقراطي والاعتراف بالأنظمة السياسية القائمة، غير أن الوقائع اللاحقة ستبرز دائما الصلات المتينة بين المملكة والجماعة، خاصّة أوقات الأزمات فقد كان عطف الملك فيصل الثالث في ترتيب ملوك آل سعود، بيّنا على قادة الجماعة خلال فترة الستينيات عند تعرّضهم لموجات قمع متواصلة على أيدي النظام الناصري.
لقد قدّمت المملكة العربية السعودية دعما سخيّا ومسترسلا لجماعة الإخوان المسلمين منذ بدأ قمعها أواخر خمسينيات القرن العشرين على أيدي عبد النّاصر، وحتّى عهد حسني مبارك. تنقل مصادر عن الأمير نايف بن عبد العزيز الّذي تولّى وزارة الداخلية لفترة طويلة وتوفّي سنة 2012، قوله:»لقد قدّمنا الكثير من الدعم لهذا التيّار، لكنّ الإخوان المسلمين دمّروا العالم العربي»، ويبيّن هذا القول أن العلاقة بين المملكة والجماعة قد أدركت بداية النهاية ابتداء من أحداث 11 سبتمبر 2001، وبلغت مرحلة النهاية الحقيقية في سلسلة حلقات متسارعة من الأحداث، انطلقت بفرار الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى المملكة في 14 يناير 2011، وانتهت بقرار السلطات المصرية حظر جماعة الإخوان المسلمين إثر عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي العيّاط.
إن الأحداث الإرهابية الّتي تورّطت فيها الجماعات الإسلامية المتشدّدة منذ انهيار برجي التجارة في نيويورك، وإلى غاية انهيار عدد من الأنظمة العربية في إطار ما عرف بثورات الربيع العربي، جعلت من المملكة العربية السعودية في مرمى نيران الغرب والشرق، وفي مواجهة سلسلة من الاتهامات الدولية والإقليمية تحمّلها مسؤولية تمويل الإرهاب، وهو أمر ربّما لم يكن يحدث من خلال قنوات رسمية، ولكن ثبت حدوثه على نحو لا يقبل التشكيك لدى الدوائر الغربية والدولية، من خلال أطراف نشيطة في المجتمع الأهلي السعودي، وخصوصا في الأوساط المرتبطة بالفكر السلفي الوهّابي الّذي ينتمي إليه كلّ من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيمي تنظيم القاعدة.
لم تكتف جماعة الإخوان المسلمين بالرعاية السعودية المادّية والمعنوية لها، بل شجّعت سعوديين على إنشاء جماعات إخوانية متعدّدة.يشير ستيفان لاكرو الباحث الفرنسي المخصّص في الجماعات الإسلامية السعودية إلى أنّه يوجد في المملكة أربع جماعات للإخوان المسلمين لم تتمكّن من التوحّد أبدا لكنّها تقاربت كثيرا، وهي جماعة «إخوان الصليفيح» وجماعة إخوان «الفنيسان»وجماعة إخوان «الزبير» وأخيرا جماعة إخوان «الحجاز»، وتنشط هذه الجماعات الأربع في أنحاء المملكة حيث تمكّنت من استقطاب آلاف الشباب، وظهرت بشكل علني مبشّرة بقرب انتصارها إثر الفوز الانتخابي الّذي حقّقه الإسلاميون في تونس ومصر، وهو ما زاد من حنق السلطات السعودية عليهم، خصوصا بعد كشفهم عن طموحاتهم للوصول إلى السلطة بشكل فجّ، وتنسيقهم الإقليمي فيما بينهم وبالتعاون مع قوى إقليمية تنافس الرياض في مكانتها، مثلما هو شأن العاصمة القطرية الدوحة.
فتنة الإخوان المسلمين: من الرياض إلى الدوحة
إنّ أزمة الثقة بين المملكة العربية السعودية وجماعة الإخوان المسلمين، الّتي انتهت إلى القطيعة الكلّية بين الطرفين وإعلان المملكة الرسمي الحرب على الجماعة باعتبارها تنظيما إرهابيا، لم تكن أبدا وليدة السنوات القليلة الأخيرة، بل كانت تتويجا لمسار من الجفوة الّتي اتسعت دائرتها بتعمّق شعور المسؤولين في الرياض بأن ولاء الجماعة لا يمكن أن يكون إلاّ لنفسها، وأنّها مستعدّة لتبديل التحالفات متى ما تبيّن لها أن مصلحتها متحقّقة في ذلك.
في هذا السياق تقول الكاتبة الصحفية ليلى الشمّري:» الموقف الخليجي الحذر من الإخوان يعود إلى بداية التسعينيات، حين وقفوا إلى جانب صدّام حسين في اجتياحه للكويت عام 1990، وربّما هذا ما يفسر موقف الكويت من نظام الإخوان في مصر، فهي لم تقدّم لهم فلساً واحداً منذ خلفوا مبارك. وسبق لولي العهد السعودي الراحل، وزير الداخلية الأمير نايف، أن عبّر في عام 1992 عن خطر الإخوان بقوله «من دون أي تردّد أقول إن مشاكلنا، كل مشاكلنا، تأتي مباشرة من جماعة الإخوان المسلمين». وتتهم السعودية الإخوان بخيانتها بعدما استقبلتهم اثر طردهم من مصر أيام جمال عبد الناصر. والكره الخليجي للإخوان عامة هو علني وواضح، بل ومصحوب بالأفعال، من خلال ملاحقات هذه الدول للجمعيات التابعة للإخوان (كالإصلاح في الإمارات) والشخصيات الداعمة له، وفي واحدة من مراحل رصّ صفوف الخونه والعملاء من اسمو نفسهم بالمعارضين .السورية وتشكيل الائتلاف المعارض، برزت معارضة سعودية واضحة للشخصيات الإخوانية».
ولا شكّ أن نظرة الريبة لدى صنّاع القرار الخليجيين عامّة، والرياض خاصّة، إزاء جماعة الإخوان المسلمين قد ازدادت حدّة منذ أزمة غزو الكويت سنة 1990، وحتّى التغيير الّذي عرفته قطر سنة 1995 بوصول الأمير حمد بن خليفة إلى السلطة إثر انقلاب سلمي على والده، إذ بدأت الدوحة بتعاون غير مسبوق مع الجماعة في بلورة سياسة خارجية جديدة تقوم بالدرجة الأولى على منافسة الدوحة للعواصم العربية الكبرى، وفي مقدّمتها الرياض، للسيطرة على قيادة العالم العربي، وهو ما بلغ ذروته في أحداث الربيع العربي، الّتي ظهرت كما لو أنّها خطّة قطرية دولية مطبوخة، من تخطيط مراكز دراسات وأبحاث غير معلومة وتنفيذ الجماعات التابعة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين في مختلف البلدان العربية.
لقد ثبت لدى صنّاع القرار السعوديين، وكذلك لدى حلفائهم الإماراتيين والكويتيين والبحرينيين، أنّ الطموح الإخواني لا حدّ له، وأن بمقدور أحلام الجماعة أن تذهب بعيدا إلى حد العمل على إحداث تغييرات جذرية على أنظمة الحكم القائمة في كلّ من الرياض وأبو ظبي والكويت والمنامة، وهو ما سرّع فيما يبدو بصدور القرار السعودي القاضي بتصنيف الجماعة تنظيما إرهابيا وحظرها في كامل تراب المملكة، وقد غذّى هذا الاعتقاد ضرب الدوحة عرض الحائط بنصائح الدول الخليجية المتكرّرة وإصرارها غير المفهوم على مواصلة رعايتها السياسية والمالية للجماعة.
لقد مضت الدوحة أشواطا بعيدة في دعمها لجماعة الإخوان المسلمين، في سياق من المنافسة الشديدة والبغضاء للرياض.
يقول الكاتب منصور القعيدان في هذا الصدد:» أكثر دولة وفاء للوهابية بعد السعودية هي قطر، وهي تمثل المرشح المثالي لخلافة السعودية أو منازعتها على تراث ابن عبد الوهاب. ولكن لا يمكن إغفال حقيقة مهمة وهي أن الوهابية السعودية كانت منذ خمسينيات القرن الماضي حليفا للإخوان المسلمين، وأن الإخوان المسلمين كانوا لعقود يدينون بالولاء ويكنون الاحترام والتقدير للوهابيين. فالوهابية أشاد بها الآباء الروحيون للإخوان المسلمين (على غرار محمد عبده ورشيد رضا) ودعموا انتشارها وقدموا استشارات ونصائح للوهابيين، ويمكننا أن نفهم أن القطريين يسعون إلى دعم وبعث «الوهابية الناعمة» التي يمكنها أن تتلاءم مع التوجه والأهداف القطرية إقليميا وعالميا. وهنا يمكننا أن نستوعب عدم التناقض بين قطر قبل تصريح الأمير المشار إليه وقطر بعدها. ولكن القطريين سيكونون أكثر حذرا من أن ينشّطوا الوهابية الثورية /المحتسبة التي ستكون نتائجها مدمرة في الداخل».
إنّ ما اتّضح جليّا لدى دوائر القرار السعودية أن جماعة الإخوان المسلمين لن تتوقّف عن حدود الانتصارات الّتي حقّقتها بفضل الرعاية القطرية –وبدرجة أقلّ التركية- في بلدان الربيع العربي، والّتي أوصلت بعض فروعها للسلطة كلّيا أو جزئيا، وهي في طريقها إلى إيصال البقيّة، بل ستواصل مخطّطها الّذي تغذّيه رؤية ايديولوجية حالمة قوامها أن «زمن الإسلاميين قد أتى»، وأن الإخوان جاءوا إلى الحكم ليستمرّوا فيه خمسمائة عام كما نقل عن الرئيس مرسي قوله، وهو ما يعني عدم إمكانية استغناء الجماعة عن بلدان الخليج الغنيّة بالنفط، وفي مقدّمتها المملكة العربية السعودية، لضمان تمويل هذا المشروع السياسي الإخواني الضخم المتطلّع إلى نسخة معاصرة من الخلافة الإسلامية، وقد زاد حزام النّار الّذي طوّقت به الجماعة المملكة من رعب قادتها من القادم.
حزام النّار: سوريا ومصر واليمن والعراق
كانت الرعاية السعودية لجماعة الإخوان المسلمين، ولسائر الحركات الإسلامية، حتّى تلك المتورّطة منها في أعمال إرهابية، تجري عادة ضمن أبعاد قاصية نسبيا من الرياض، في أفغانستان والبوسنة والشيشان والصومال، ممّا جعلها من جهة مناطق «تنفيس» يمارس فيها هوّاة التطرّف الديني الّذين تنتجهم مدارس المملكة قناعاتهم العقائدية والايديولوجية بعيدا عن الحرم وسائر الأراضي المقدّسة، ومن جهة أخرى محورا لتعزيز مكانة السعودية القيادية في العالم العربي والإسلامي، لكنّ اقتراب الدائرة بفعلّ مخطّطات جماعة الإخوان وحزام النّار الّذي طوّقوا به الرياض خلال ثلاث سنوات من تداعيات الربيع العربي، بإضرام لظى الفتنة في العواصم المحيطة، في دمشق والقاهرة وصنعاء، وقبل ذلك في بغداد ومدنا عراقية أخرى، جعل صنّاع القرار السعوديّين ينتبهون إلى خطورة اللعبة الإخوانية، ويقدّرون إمكانية اشتعال لهيبها في قميص الجار الّذي طالما قدّم العون والمأوى.
لقد أكّدت مصادر عديدة متواترة على تورّط جماعة الإخوان المسلمين في جميع الفتن المندلعة في المنطقة المحيطة بالمملكة العربية السعودية، في مصر وسوريا واليمن والعراق وليبيا، وعلى انتقالهم التدريجي من طور العمل السلمي لأجل تحقيق أهدافهم السياسية من خلال آليات الانتخابات والمنافسة الديمقراطية، إلى طور العمل الحربي، ففي جميع هذه البلدان عملت القيادات الإخوانية بلا هوادة، سواء من خلال المساعدة القطرية أو الدعم التركي، على تأسيس تنظيمات عسكرية أو نواة جيوش يخطّط للاستعاضة بها عن الجيوش الوطنية القائمة، من قبيل الجيش الحرّ في سوريا والجيش الحرّ في مصر والجيش الحرّ في اليمن، فضلا عمّا قيل من وجود مخطّطات انقلابية على أنظمة قائمة في بعض الدول الخليجية كما كان الشأن بالنسبة لتنظيم «الإصلاح» في الإمارات العربية المتّحدة.
لقد أدرك السعوديون على الرغم من بغضهم الشديد لنظام الرئيس السوري بشّار الأسد، أن نجاح جماعة الإخوان المسلمين في الوصول إلى السلطة في دمشق عبر العمل العسكري لن يكون مجرّد تغيير محلّي سيعوّض نظاما قائما بنظام جديد، بل سيفتح المجال أمام تحوّل إقليمي كبير ستكون المملكة العربية السعودية أبرز ضحاياه، خصوصا إذا ما وضع بعين الاعتبار الدعم التركي غير المحدود لهذا التغيير، الّذي لا يمكن قراءته خارج سياق الثأر التاريخي الّذي يطمح العثمانيون الجدد بقيادة رجب طيب أردوغان إلى إنجازه، ردّا لاعتبار سلاطين بني عثمان الّذي تألّموا لتحالف العرب في بداية القرن الماضي مع الأنجليز وسقوط خلافتهم كمحصّلة لتلك الخيانة الّتي لن يغفروها.
وفي هذا السياق يقول الباحث عابد عبيد الزريعي:» تراجع الدور السعودي في المنطقة لصالح الدور التركي الذي بدأ يكشف عن أطماعه في سوريا والمنطقة، ولصالح قطر التي بدأت تكشف عن سياسة هيمنة وفرض وجود وتآمر على السعودية ذاتها متخذة من جماعة الإخوان المسلمين أداة لها. ولمواجهة هذه الحقيقة نجد السعودية وعبر وسائل إعلامها تشن حملة واسعة على تنظيم الإخوان المسلمين، وتهاجم الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة التركية بتعيينها والي للسوريين، واعتبرت ذلك تعبيرا عن رغبة تركيا بالهيمنة وتذكيرا بالاحتلال العثماني للمنطقة العربية».
لقد أدركت القيادة السعودية من خلال التداعيات الدموية للأحداث الجارية في بلدان الطوق المحيط بها، أن مواصلة المشي على الحافّة أو اللعب بنيران الجماعات الإسلامية أضحى لعبة خطرة ومكلفة، وأن اجتماع عوامل إقليميّة طموحة ومتحفّزة ذات أنصار في الداخل مع ظروف محلّية تتسم بحساسية عالية في ظلّ ما شهده المجتمع السعودي من متغّيرات جذرية وتحوّلات اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية، قد يفضي إلى نتائج وخيمة غير متوقّعة وإلى مفاجآت من العيار الثقيل، ربّما يزيدها كارثية الصراع الخامد على العرش، الّذي يمكن أن يندلع بين الأحفاد في كلّ وقت وحين.
خاتمة
لقد خلص مركز القرار السعودي بعد مسار من التأمّل والتحليل والتقدير دام قرابة ربع قرن ووصل إلى ذروته في خضمّ أحداث الربيع العربي، إلى خطورة المشروع الإخواني ومن ورائه الجماعات الإرهابية، على مشروع الدولة الوطنية في العالم العربي، وإلى أنّ طموح الإخوان المسلمين الجارف إلى السلطة يبرّر لهم استعمال جميع الوسائل بما في ذلك الانقلابات وسائر الطرق العنيفة، وإلى أن تحرّكاتهم العسكرية في دول المنطقة، وخصوصا تلك الّتي تشكّل طوقا جغرافيا بالنسبة لها، ليست سوى تمرينا في اتّجاه استعادة الأراضي المقدّسة في الحجاز وإعادة إقامة الخلافة الإسلامية، الّتي كان سقوطها سنة 1924 مصدر الألم والدافع الرئيس لتأسيس الشيخ حسن البنّا للجماعة، ومن هنا يبدو قرار التجريم المتّخذ في مطلع العام 2014، ضرورة أكثر منه اختيارا.
وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين الّتي طالما اعتمد قادتها على علاقاتهم الوثيقة بالمملكة في مواجهة سائر الأزمات الّتي اعترضت سبيلهم منذ نشأة التنظيم على أيدي الشيخ حسن البنّا سنة 1928، وهو ما أثار موجة من التساؤلات العميقة حول دلالات الإجراء السعودي غير المسبوق، وتأثيراته المحتملة داخليا على الأوضاع في المملكة نفسها، وخارجيا في مشهد المنطقة الخليجية والعربية والإسلامية برمّتها.
لقد بدأت السلطات السعودية عمليّا في تنفيذ القرار الملكي منذ يوم 8 مارس 2014، بمنع نشطاء الإخوان المسلمين سواء من داخل المملكة أو خارجها، من ممارسة أي أنشطة علنية، بما في ذلك المشاركة في مؤتمرات وندوات علمية، كما وزّعت وزارة الداخلية أوامر على المعابر الحدودية للبلاد بعدم السماح للقيادات الإخوانية، خصوصا الفارّة من مصر المجاورة بالدخول إلى أراضيها، فضلا عن تدشينها حملات ملاحقة أمنية لخلايا الجماعة، خصوصا تلك المشاركة في الحرب السورية، أو المساندة لتحرّكات الجماعة الأمّ الاحتجاجية على النظام المصري الجديد الّذي حلّ مكان نظام الرئيس الإخواني المعزول محمّد مرسي العيّاط، وهو ما أكّد جدّية الخطوة الّتي أقدمت الرياض على اتّخاذها تجاه الجماعات الّتي طالما نظرت إليها عدّة أطراف باعتبارها أذرعا للمملكة في المنطقة، ووسائل لتحقيق مخطّطات تشكّل جزء من سياستها الخارجية.
ويرجّح العارفون بالشأن السعودي أن قرار تجريم الجماعات الإرهابية، وتصنيف جماعة الإخوان المسلمين في لائحة هذه الجماعات، يعكس حتما تحوّلا جذريا في السياستين الداخلية والخارجية للمملكة، لا يمكن قراءته بمعزل عن عدّة معطيات وعوامل، بعضها يتّصل بالمتغّيرات المرتبطة بملفّ انتقال السلطة من الجيل الثاني إلى الجيل الثالث من أبناء الملك عبد العزيز آل سعود مؤسّس الدولة، وخاصّة بالعلاقة بين آل عبد العزيز أصحاب السلطة الزمنية وآل الشيخ أصحاب السلطة الدينية، وبعضها وثيق الصلة بما يشهده محيط المملكة في دوائره الثلاث، الخليجية والعربية والإسلامية، من أحداث ووقائع دراماتيكية، خصوصا منذ انفجار ثورات الربيع العربي واندلاع الحروب والأزمات في أكثر من بلد مجاور وقريب، كسوريا ومصر واليمن، ممّا قرّب حبل النّار من السعودية وجعلها شريكا مباشرا في صراعات غير تقليدية.
لقد اعتمدت المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك فيصل سياسة خارجية قوامها أنّ وجود أزمات في محيط المملكة ربّما كان مفيدا في الحفاظ على استقرار أمنها وتماسكها، لكّن الاضطرابات والقلاقل الّتي شهدتها المنطقة منذ نجاح الثورة التونسية في جانفي 2011، زعزع هذه النظرية ودفع بمركز القرار السعودي إلى العمل سريعا من أجل إحداث التغييرات اللازمة على محدّدات السياسة الخارجية، تفاديا لأي انعكاسات عميقة لأحداث المنطقة المجاورة على استقرار الأوضاع الداخلية، ولا يمكن بأي حال قراءة المنع السعودي لجماعة الإخوان المسلمين وتجريم الجماعات والحركات الإسلامية المتطرّفة المتورّطة في أعمال إرهابية إلاّ باعتباره تحوّلا نوعيا في سياسات الرياض، ستكون له انعكاسات كبرى ودلالات جذرية في المستقبل القريب.
لطالما نظر الباحثون في العلاقات الدولية والمتخصّصون في شؤون العالم العربي والإسلامي، لغالبية الجماعات والحركات والأحزاب الإسلامية، بما في ذلك الجماعة الأم حركة الإخوان المسلمين المصرية، باعتبارها جزء من استراتيجية المملكة في المنطقة، فهي تنظر لنفسها من جهة باعتبارها محور العمل الإسلامي والمؤتمن على بقاع المسلمين المقدّسة، وهي ترى من جهة ثانية في هذه الجماعات والحركات الضمانة الكبرى لمواجهة الأفكار والتيّارات المعادية للإسلام والدخيلة على الأمّة، وللإبقاء على ولاء شعوب المنطقة –المعنوي على الأقلّ- لمنظومتها العقائدية والشعائرية الدائرة غالبا حول مرجعية المشروع «الوهّابي» وقدسيّة الطرح «السلفي»، ولم يتبادر إلى ذهن أيّ كان تقريبا أن العلاقة بين المملكة والجماعة ستبلغ يوما مستوى القطيعة، كما لم يخطر ببال أحد أن الجماعات الإرهابية ستقف في لحظة ما في مواجهة مع الدولة الّتي تشترك معها في ذات المرجعية العقائدية، والّتي اعتمدت على مجتمعها الأهلي بالدرجة الأولى في الحصول على التمويلات الضرورية لأنشطتها في مختلف أنحاء العالم، داخل الدائرة الإسلامية وخارجها، وهو ما يتوجّب قراءة متأنّية وعميقة في دوافع هذا التحوّل وانعكاساته المتوقّعة.
في دوافع القرار السعودي
ليس بمقدور باحث في خلفيات القرار السعودي تجريم الجماعات الإرهابية وحظر جماعة الإخوان المسلمين أن يصل إلى تشخيص صحيح لدوافع القرار دون الوقوف على الحقائق التاريخية للعلاقة بين السلطة السياسية في المملكة العربية السعودية ممثّلة بالأساس في أسرة مؤسّس المملكة عبد العزيز آل سعود، الّذي ما يزال أبناؤه يتداولون على العرش إلى اليوم، والحركات الإسلامية الناشطة في مختلف أقاليم البلاد الّتي تكاد مساحتها الشاسعة تبلغ مساحة أوربا الغربية بأكملها، والّتي تأسّست إمّا بفعل حراك داخلي بمبادرات من شخصيات سعودية، أو بفعل التفاعل مع الوافدين من قيادات حركات إسلامية خارجية، سواء لأسباب سياسية تتعلّق بأزمات تعيشها بلدانهم، أو لأسباب أخرى متعدّدة، علمية وعملية وغيرها، خصوصا منذ الستينيات عندما بدأ الاقتصاد السعودي يتحوّل إلى اقتصاد ريعي قائم على النفط والصناعات المشتقّة منه.
تعود العلاقة بين المملكة العربية السعودية وجماعة الإخوان المسلمين إلى فترة تأسيس الجماعة. يقول ثروت الخرباوي في كتابه «سرّ المعبد..الأسرار الخفيّة لجماعة الإخوان المسلمين» ما يلي عن هذه الحقبة التأسيسية:» يبدو أنّ حسن البنّا قد فكّر في إنشاء جماعته وخطّط لها حينما كان شابّا يافعا يطلب العلم في مدرسة دار العلوم، وقد قرأ وقتها الأخبار الّتي أخذت تتواتر من نجد والجزيرة العربية عن جيش الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، الّذي أخذ يساعده في إخضاع الجزيرة العربية له، ليأخذ الحكم عنوة من آل الرشيد، (وقد) أطلق عبد العزيز آل سعود على جيشه «الإخوان» و»إخوان من أطاع الله»، وجعل شعارا لهم السيف وعبارة التوحيد..»(ص180).
وكما تجدر الملاحظة فإنّ التماهي كان واضحا بين شعار المملكة العربية السعودية، السيف وعبارة التوحيد، وشعار جماعة الإخوان المسلمين. وقد عمل قادة الإخوان كما يفصّل الخرباوي في كتابه المذكور ما في وسعهم لإخفاء كلّ صلة مرجعية بينهم وبين الفكرة السلفية الوهّابية السعودية، من باب التأكيد على سلمية أو «لا عنفية» الجماعة»، بل استعدادها اللاّمشروط للانخراط في السياق الديمقراطي والاعتراف بالأنظمة السياسية القائمة، غير أن الوقائع اللاحقة ستبرز دائما الصلات المتينة بين المملكة والجماعة، خاصّة أوقات الأزمات فقد كان عطف الملك فيصل الثالث في ترتيب ملوك آل سعود، بيّنا على قادة الجماعة خلال فترة الستينيات عند تعرّضهم لموجات قمع متواصلة على أيدي النظام الناصري.
لقد قدّمت المملكة العربية السعودية دعما سخيّا ومسترسلا لجماعة الإخوان المسلمين منذ بدأ قمعها أواخر خمسينيات القرن العشرين على أيدي عبد النّاصر، وحتّى عهد حسني مبارك. تنقل مصادر عن الأمير نايف بن عبد العزيز الّذي تولّى وزارة الداخلية لفترة طويلة وتوفّي سنة 2012، قوله:»لقد قدّمنا الكثير من الدعم لهذا التيّار، لكنّ الإخوان المسلمين دمّروا العالم العربي»، ويبيّن هذا القول أن العلاقة بين المملكة والجماعة قد أدركت بداية النهاية ابتداء من أحداث 11 سبتمبر 2001، وبلغت مرحلة النهاية الحقيقية في سلسلة حلقات متسارعة من الأحداث، انطلقت بفرار الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى المملكة في 14 يناير 2011، وانتهت بقرار السلطات المصرية حظر جماعة الإخوان المسلمين إثر عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي العيّاط.
إن الأحداث الإرهابية الّتي تورّطت فيها الجماعات الإسلامية المتشدّدة منذ انهيار برجي التجارة في نيويورك، وإلى غاية انهيار عدد من الأنظمة العربية في إطار ما عرف بثورات الربيع العربي، جعلت من المملكة العربية السعودية في مرمى نيران الغرب والشرق، وفي مواجهة سلسلة من الاتهامات الدولية والإقليمية تحمّلها مسؤولية تمويل الإرهاب، وهو أمر ربّما لم يكن يحدث من خلال قنوات رسمية، ولكن ثبت حدوثه على نحو لا يقبل التشكيك لدى الدوائر الغربية والدولية، من خلال أطراف نشيطة في المجتمع الأهلي السعودي، وخصوصا في الأوساط المرتبطة بالفكر السلفي الوهّابي الّذي ينتمي إليه كلّ من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري زعيمي تنظيم القاعدة.
لم تكتف جماعة الإخوان المسلمين بالرعاية السعودية المادّية والمعنوية لها، بل شجّعت سعوديين على إنشاء جماعات إخوانية متعدّدة.يشير ستيفان لاكرو الباحث الفرنسي المخصّص في الجماعات الإسلامية السعودية إلى أنّه يوجد في المملكة أربع جماعات للإخوان المسلمين لم تتمكّن من التوحّد أبدا لكنّها تقاربت كثيرا، وهي جماعة «إخوان الصليفيح» وجماعة إخوان «الفنيسان»وجماعة إخوان «الزبير» وأخيرا جماعة إخوان «الحجاز»، وتنشط هذه الجماعات الأربع في أنحاء المملكة حيث تمكّنت من استقطاب آلاف الشباب، وظهرت بشكل علني مبشّرة بقرب انتصارها إثر الفوز الانتخابي الّذي حقّقه الإسلاميون في تونس ومصر، وهو ما زاد من حنق السلطات السعودية عليهم، خصوصا بعد كشفهم عن طموحاتهم للوصول إلى السلطة بشكل فجّ، وتنسيقهم الإقليمي فيما بينهم وبالتعاون مع قوى إقليمية تنافس الرياض في مكانتها، مثلما هو شأن العاصمة القطرية الدوحة.
فتنة الإخوان المسلمين: من الرياض إلى الدوحة
إنّ أزمة الثقة بين المملكة العربية السعودية وجماعة الإخوان المسلمين، الّتي انتهت إلى القطيعة الكلّية بين الطرفين وإعلان المملكة الرسمي الحرب على الجماعة باعتبارها تنظيما إرهابيا، لم تكن أبدا وليدة السنوات القليلة الأخيرة، بل كانت تتويجا لمسار من الجفوة الّتي اتسعت دائرتها بتعمّق شعور المسؤولين في الرياض بأن ولاء الجماعة لا يمكن أن يكون إلاّ لنفسها، وأنّها مستعدّة لتبديل التحالفات متى ما تبيّن لها أن مصلحتها متحقّقة في ذلك.
في هذا السياق تقول الكاتبة الصحفية ليلى الشمّري:» الموقف الخليجي الحذر من الإخوان يعود إلى بداية التسعينيات، حين وقفوا إلى جانب صدّام حسين في اجتياحه للكويت عام 1990، وربّما هذا ما يفسر موقف الكويت من نظام الإخوان في مصر، فهي لم تقدّم لهم فلساً واحداً منذ خلفوا مبارك. وسبق لولي العهد السعودي الراحل، وزير الداخلية الأمير نايف، أن عبّر في عام 1992 عن خطر الإخوان بقوله «من دون أي تردّد أقول إن مشاكلنا، كل مشاكلنا، تأتي مباشرة من جماعة الإخوان المسلمين». وتتهم السعودية الإخوان بخيانتها بعدما استقبلتهم اثر طردهم من مصر أيام جمال عبد الناصر. والكره الخليجي للإخوان عامة هو علني وواضح، بل ومصحوب بالأفعال، من خلال ملاحقات هذه الدول للجمعيات التابعة للإخوان (كالإصلاح في الإمارات) والشخصيات الداعمة له، وفي واحدة من مراحل رصّ صفوف الخونه والعملاء من اسمو نفسهم بالمعارضين .السورية وتشكيل الائتلاف المعارض، برزت معارضة سعودية واضحة للشخصيات الإخوانية».
ولا شكّ أن نظرة الريبة لدى صنّاع القرار الخليجيين عامّة، والرياض خاصّة، إزاء جماعة الإخوان المسلمين قد ازدادت حدّة منذ أزمة غزو الكويت سنة 1990، وحتّى التغيير الّذي عرفته قطر سنة 1995 بوصول الأمير حمد بن خليفة إلى السلطة إثر انقلاب سلمي على والده، إذ بدأت الدوحة بتعاون غير مسبوق مع الجماعة في بلورة سياسة خارجية جديدة تقوم بالدرجة الأولى على منافسة الدوحة للعواصم العربية الكبرى، وفي مقدّمتها الرياض، للسيطرة على قيادة العالم العربي، وهو ما بلغ ذروته في أحداث الربيع العربي، الّتي ظهرت كما لو أنّها خطّة قطرية دولية مطبوخة، من تخطيط مراكز دراسات وأبحاث غير معلومة وتنفيذ الجماعات التابعة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين في مختلف البلدان العربية.
لقد ثبت لدى صنّاع القرار السعوديين، وكذلك لدى حلفائهم الإماراتيين والكويتيين والبحرينيين، أنّ الطموح الإخواني لا حدّ له، وأن بمقدور أحلام الجماعة أن تذهب بعيدا إلى حد العمل على إحداث تغييرات جذرية على أنظمة الحكم القائمة في كلّ من الرياض وأبو ظبي والكويت والمنامة، وهو ما سرّع فيما يبدو بصدور القرار السعودي القاضي بتصنيف الجماعة تنظيما إرهابيا وحظرها في كامل تراب المملكة، وقد غذّى هذا الاعتقاد ضرب الدوحة عرض الحائط بنصائح الدول الخليجية المتكرّرة وإصرارها غير المفهوم على مواصلة رعايتها السياسية والمالية للجماعة.
لقد مضت الدوحة أشواطا بعيدة في دعمها لجماعة الإخوان المسلمين، في سياق من المنافسة الشديدة والبغضاء للرياض.
يقول الكاتب منصور القعيدان في هذا الصدد:» أكثر دولة وفاء للوهابية بعد السعودية هي قطر، وهي تمثل المرشح المثالي لخلافة السعودية أو منازعتها على تراث ابن عبد الوهاب. ولكن لا يمكن إغفال حقيقة مهمة وهي أن الوهابية السعودية كانت منذ خمسينيات القرن الماضي حليفا للإخوان المسلمين، وأن الإخوان المسلمين كانوا لعقود يدينون بالولاء ويكنون الاحترام والتقدير للوهابيين. فالوهابية أشاد بها الآباء الروحيون للإخوان المسلمين (على غرار محمد عبده ورشيد رضا) ودعموا انتشارها وقدموا استشارات ونصائح للوهابيين، ويمكننا أن نفهم أن القطريين يسعون إلى دعم وبعث «الوهابية الناعمة» التي يمكنها أن تتلاءم مع التوجه والأهداف القطرية إقليميا وعالميا. وهنا يمكننا أن نستوعب عدم التناقض بين قطر قبل تصريح الأمير المشار إليه وقطر بعدها. ولكن القطريين سيكونون أكثر حذرا من أن ينشّطوا الوهابية الثورية /المحتسبة التي ستكون نتائجها مدمرة في الداخل».
إنّ ما اتّضح جليّا لدى دوائر القرار السعودية أن جماعة الإخوان المسلمين لن تتوقّف عن حدود الانتصارات الّتي حقّقتها بفضل الرعاية القطرية –وبدرجة أقلّ التركية- في بلدان الربيع العربي، والّتي أوصلت بعض فروعها للسلطة كلّيا أو جزئيا، وهي في طريقها إلى إيصال البقيّة، بل ستواصل مخطّطها الّذي تغذّيه رؤية ايديولوجية حالمة قوامها أن «زمن الإسلاميين قد أتى»، وأن الإخوان جاءوا إلى الحكم ليستمرّوا فيه خمسمائة عام كما نقل عن الرئيس مرسي قوله، وهو ما يعني عدم إمكانية استغناء الجماعة عن بلدان الخليج الغنيّة بالنفط، وفي مقدّمتها المملكة العربية السعودية، لضمان تمويل هذا المشروع السياسي الإخواني الضخم المتطلّع إلى نسخة معاصرة من الخلافة الإسلامية، وقد زاد حزام النّار الّذي طوّقت به الجماعة المملكة من رعب قادتها من القادم.
حزام النّار: سوريا ومصر واليمن والعراق
كانت الرعاية السعودية لجماعة الإخوان المسلمين، ولسائر الحركات الإسلامية، حتّى تلك المتورّطة منها في أعمال إرهابية، تجري عادة ضمن أبعاد قاصية نسبيا من الرياض، في أفغانستان والبوسنة والشيشان والصومال، ممّا جعلها من جهة مناطق «تنفيس» يمارس فيها هوّاة التطرّف الديني الّذين تنتجهم مدارس المملكة قناعاتهم العقائدية والايديولوجية بعيدا عن الحرم وسائر الأراضي المقدّسة، ومن جهة أخرى محورا لتعزيز مكانة السعودية القيادية في العالم العربي والإسلامي، لكنّ اقتراب الدائرة بفعلّ مخطّطات جماعة الإخوان وحزام النّار الّذي طوّقوا به الرياض خلال ثلاث سنوات من تداعيات الربيع العربي، بإضرام لظى الفتنة في العواصم المحيطة، في دمشق والقاهرة وصنعاء، وقبل ذلك في بغداد ومدنا عراقية أخرى، جعل صنّاع القرار السعوديّين ينتبهون إلى خطورة اللعبة الإخوانية، ويقدّرون إمكانية اشتعال لهيبها في قميص الجار الّذي طالما قدّم العون والمأوى.
لقد أكّدت مصادر عديدة متواترة على تورّط جماعة الإخوان المسلمين في جميع الفتن المندلعة في المنطقة المحيطة بالمملكة العربية السعودية، في مصر وسوريا واليمن والعراق وليبيا، وعلى انتقالهم التدريجي من طور العمل السلمي لأجل تحقيق أهدافهم السياسية من خلال آليات الانتخابات والمنافسة الديمقراطية، إلى طور العمل الحربي، ففي جميع هذه البلدان عملت القيادات الإخوانية بلا هوادة، سواء من خلال المساعدة القطرية أو الدعم التركي، على تأسيس تنظيمات عسكرية أو نواة جيوش يخطّط للاستعاضة بها عن الجيوش الوطنية القائمة، من قبيل الجيش الحرّ في سوريا والجيش الحرّ في مصر والجيش الحرّ في اليمن، فضلا عمّا قيل من وجود مخطّطات انقلابية على أنظمة قائمة في بعض الدول الخليجية كما كان الشأن بالنسبة لتنظيم «الإصلاح» في الإمارات العربية المتّحدة.
لقد أدرك السعوديون على الرغم من بغضهم الشديد لنظام الرئيس السوري بشّار الأسد، أن نجاح جماعة الإخوان المسلمين في الوصول إلى السلطة في دمشق عبر العمل العسكري لن يكون مجرّد تغيير محلّي سيعوّض نظاما قائما بنظام جديد، بل سيفتح المجال أمام تحوّل إقليمي كبير ستكون المملكة العربية السعودية أبرز ضحاياه، خصوصا إذا ما وضع بعين الاعتبار الدعم التركي غير المحدود لهذا التغيير، الّذي لا يمكن قراءته خارج سياق الثأر التاريخي الّذي يطمح العثمانيون الجدد بقيادة رجب طيب أردوغان إلى إنجازه، ردّا لاعتبار سلاطين بني عثمان الّذي تألّموا لتحالف العرب في بداية القرن الماضي مع الأنجليز وسقوط خلافتهم كمحصّلة لتلك الخيانة الّتي لن يغفروها.
وفي هذا السياق يقول الباحث عابد عبيد الزريعي:» تراجع الدور السعودي في المنطقة لصالح الدور التركي الذي بدأ يكشف عن أطماعه في سوريا والمنطقة، ولصالح قطر التي بدأت تكشف عن سياسة هيمنة وفرض وجود وتآمر على السعودية ذاتها متخذة من جماعة الإخوان المسلمين أداة لها. ولمواجهة هذه الحقيقة نجد السعودية وعبر وسائل إعلامها تشن حملة واسعة على تنظيم الإخوان المسلمين، وتهاجم الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة التركية بتعيينها والي للسوريين، واعتبرت ذلك تعبيرا عن رغبة تركيا بالهيمنة وتذكيرا بالاحتلال العثماني للمنطقة العربية».
لقد أدركت القيادة السعودية من خلال التداعيات الدموية للأحداث الجارية في بلدان الطوق المحيط بها، أن مواصلة المشي على الحافّة أو اللعب بنيران الجماعات الإسلامية أضحى لعبة خطرة ومكلفة، وأن اجتماع عوامل إقليميّة طموحة ومتحفّزة ذات أنصار في الداخل مع ظروف محلّية تتسم بحساسية عالية في ظلّ ما شهده المجتمع السعودي من متغّيرات جذرية وتحوّلات اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية، قد يفضي إلى نتائج وخيمة غير متوقّعة وإلى مفاجآت من العيار الثقيل، ربّما يزيدها كارثية الصراع الخامد على العرش، الّذي يمكن أن يندلع بين الأحفاد في كلّ وقت وحين.
خاتمة
لقد خلص مركز القرار السعودي بعد مسار من التأمّل والتحليل والتقدير دام قرابة ربع قرن ووصل إلى ذروته في خضمّ أحداث الربيع العربي، إلى خطورة المشروع الإخواني ومن ورائه الجماعات الإرهابية، على مشروع الدولة الوطنية في العالم العربي، وإلى أنّ طموح الإخوان المسلمين الجارف إلى السلطة يبرّر لهم استعمال جميع الوسائل بما في ذلك الانقلابات وسائر الطرق العنيفة، وإلى أن تحرّكاتهم العسكرية في دول المنطقة، وخصوصا تلك الّتي تشكّل طوقا جغرافيا بالنسبة لها، ليست سوى تمرينا في اتّجاه استعادة الأراضي المقدّسة في الحجاز وإعادة إقامة الخلافة الإسلامية، الّتي كان سقوطها سنة 1924 مصدر الألم والدافع الرئيس لتأسيس الشيخ حسن البنّا للجماعة، ومن هنا يبدو قرار التجريم المتّخذ في مطلع العام 2014، ضرورة أكثر منه اختيارا.
الشابي-
- الجنس :
عدد المساهمات : 10326
نقاط : 34771
تاريخ التسجيل : 29/04/2014
. :
. :
. :
مواضيع مماثلة
» ما يسمي العدل في المملكة العربية السعودية والخبر كما ورد من صحيفة عكاظ التي تصدر في المملكة السعودية
» تقرير مهم اعده عبد الرحيم علي عن دور امريكا في العلاقة بين السعودية والاخوان ومصر
» المملكة العربية السعودية حفظها الله
» مراحل تأسيس المملكة العربية السعودية
» تلفزيون الليبية يشيد بمشايخ المملكة العربية السعودية.
» تقرير مهم اعده عبد الرحيم علي عن دور امريكا في العلاقة بين السعودية والاخوان ومصر
» المملكة العربية السعودية حفظها الله
» مراحل تأسيس المملكة العربية السعودية
» تلفزيون الليبية يشيد بمشايخ المملكة العربية السعودية.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت 9 نوفمبر - 0:32 من طرف علي عبد الله البسامي
» تحية لفرسان لبنان
الجمعة 1 نوفمبر - 23:43 من طرف علي عبد الله البسامي
» أشجان عربية
الجمعة 25 أكتوبر - 22:54 من طرف علي عبد الله البسامي
» فلنحم وجودنا
الإثنين 21 أكتوبر - 22:13 من طرف علي عبد الله البسامي
» وداع الأبطال
الأحد 20 أكتوبر - 10:19 من طرف علي عبد الله البسامي
» بين الدين والاخلاق
الجمعة 18 أكتوبر - 10:36 من طرف علي عبد الله البسامي
» حول مفهوم الحضارة
الجمعة 18 أكتوبر - 10:33 من طرف علي عبد الله البسامي
» فيم تكمن قيمة الانسان ؟؟؟
الجمعة 18 أكتوبر - 10:30 من طرف علي عبد الله البسامي
» حزب المجد
الخميس 17 أكتوبر - 23:24 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الإقدام
السبت 12 أكتوبر - 13:59 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الى امّتنا
الخميس 10 أكتوبر - 16:49 من طرف علي عبد الله البسامي
» حقيقة الثقافة
الجمعة 20 سبتمبر - 14:56 من طرف علي عبد الله البسامي
» وجعٌ على وجع
الإثنين 16 سبتمبر - 17:28 من طرف علي عبد الله البسامي
» تعاظمت الجراح
الأحد 15 سبتمبر - 17:57 من طرف علي عبد الله البسامي
» بجلوا الابطال
الجمعة 13 سبتمبر - 17:37 من طرف علي عبد الله البسامي
» موقف عز وشرف
الثلاثاء 20 أغسطس - 0:19 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الوفاق
الخميس 8 أغسطس - 18:27 من طرف علي عبد الله البسامي
» رثاء الشهيد اسماعيل هنية
الأربعاء 31 يوليو - 18:37 من طرف علي عبد الله البسامي
» هدهد الجنوب
الجمعة 26 يوليو - 20:41 من طرف علي عبد الله البسامي
» حماة العفن
الأربعاء 17 يوليو - 16:53 من طرف علي عبد الله البسامي