الشرق الأوسط: أحمد قذاف الدم يروي نصف قرن مع معمر القذافي /الحلقة (3)
صفحة 1 من اصل 1
الشرق الأوسط: أحمد قذاف الدم يروي نصف قرن مع معمر القذافي /الحلقة (3)
قذاف الدم يتذكر الحلقة (3): علاقتنا بفرنسا ظلت بين شد وجذب لسنوات بسبب أفريقيا.. و«سوء تفاهم» أفشل مصالحة بشار ومبارك في 2010
لم تكن علاقة ليبيا وفرنسا تسير على ما يرام على طول الخط، رغم التقارب الظاهري بين الرئيس السابق نيكولا ساركوزي والعقيد الراحل معمر القذافي، في السنوات الـ10 من الألفية الجديدة. إنها علاقة درامية بكل معنى الكلمة.. توجد معارك حربية واشتباكات دبلوماسية و«قفشات تفاوضية» وتعاون عسكري، وغيرها من التفاصيل التي استمرت منذ طرد القواعد الفرنسية من ليبيا بعد تولي القذافي الحكم عام 1969. وحتى عودة الطائرات الفرنسية لقصف حصون القذافي ضمن قوات حلف «ناتو» في 2011. كانت ليبيا تحارب وتدعم المقاتلين في أفريقيا ضد الوجود الفرنسي، خاصة في تشاد، في العقود الـ4 الماضية. وشارك أحمد قذاف الدم في بعض هذه المواجهات، لكنه رافق القذافي أيضا في رحلات كان من أطرفها رحلة موسكو، ومفاوضات كريت مع الرئيس فرنسوا ميتران، الذي ارتبط معه ومع أسرته بعلاقة خاصة يأتي تفصيلها في حلقة أخرى، إضافة لصداقته للزعيم اليوناني باباندريو، والتباس الأمر على القذافي في هذا الأمر فيما بعد، وكذا محاولة، فشلت في المهد، لإصلاح ذات البين بين الرئيسين بشار الأسد وحسني مبارك.
الرئيس نيكولا ساركوزي تعاون معنا منذ كان وزيرا للداخلية..
ودافع عن ليبيا في المحافل الدولية.. وساعدنا في حل بعض المشاكل في الدول الأفريقية.. والقذافي طالبنا الاهتمام بهذا الرجل ومساعدته بكل الوسائل في الترشح
للرئاسة ليكون لنا صديقا
في قصر الإليزيه
* القذافي حوّل دفة اجتماع مع قيادات الحزب الشيوعي بحضور الرئيس السوفياتي بريجينيف للحديث عن الإسلام وضرورة الإيمان بالله.. واستغرق الأمر نصف ساعة وقال لهم إن الإلحاد يدل
على التخلف ثم تلا عدة آيات قرآنية وهو ينظر لـ«بريجينيف» قبل أن يهديه مصحفا باللغة الروسية
* معمر لم يستخدم هاتف الثريا في أيامه الأخيرة في سرت وقصة اتصاله بسوريا من هناك كانت للتمويه.. لكنه كان يجري مداخلات هاتفية مع إذاعات محلية خاصة إذاعة سرت ومع بعض القيادات داخل ليبيا.. لكن بالتأكيد لم يكن ذلك من المكان نفسه ولا بالوسيلة نفسها
* إذن مد الليبيون خيوط الود في باريس في إطار محاولة بدأت منذ 2004 للتصالح مع الغرب، فالتقطها ساركوزي، على ما يبدو، حين كان وزيرا للداخلية. ولا أحد يعرف إن كان ساركوزي هو من فعل ذلك عن عمد بوصفه رجل أمن فرنسيا، أم أن الليبيين هم الذين كانوا يتحكمون في إدارة ملف هذا الرجل الذي سيغير وجهه لأصدقائه القدامى في طرابلس، ويتحول إلى رأس حربة ضدهم في الهجوم العسكري مع «ناتو» بطائرات «رافال»، لمدة 8 أشهر.
ومنذ تسليم ليبيا لبرنامجها النووي، ووقفها لمشروع بناء صواريخ عابرة للقارات، في مطلع الألفية، ومع صعود نجم سيف الإسلام نجل القذافي، لوحظ أنه كان هناك انفتاح بين ليبيا والغرب، فهل كان انفتاحا حقيقيا؟ يقول أحمد قذاف الدم: «نحن كنا نظن أنه حقيقي، لكنه اتضح فيما بعد أنه لم يكن حقيقيا.. كنا واثقين في كلام الغرب، لكن معمر لم يكن يثق في كلامهم. معمر لم يُخدع، ولكننا نحن خُدعنا».
حسنا. وهل تولد لديك، في أي لحظة، من خلال مقابلاتك بالرئيس ساركوزي، أنه يمكن أن يأتي يوم ويتحول إلى رأس حربة ضد ليبيا، كما حدث في 2011؟ يجيب قذاف الدم بشكل قاطع قائلا: «لا.. لا.. نحن علاقتنا بساركوزي كانت منذ أن كان وزيرا للداخلية. كان رجلا متعاونا معنا، والأخ معمر قال: لا بد من الاهتمام بهذا الرجل، وواجب أن يترشح للرئاسة ليكون لنا صديق في الإليزيه. وقتها كنا نحن نبني الاتحاد الأفريقي.. كنا مقبلين على قيام الحكومة الأفريقية الواحدة، ولا بد من تحييد فرنسا. وجرى دعم ساركوزي من ليبيا بكل الوسائل».
وهل يعني ذلك أن ليبيا ساهمت في تمويل حملة ساركوزي الانتخابية في 2007 كما قيل. ويرد قذاف الدم قائلا: كل الدول تساهم في مثل هذه الحملات الانتخابية في الغرب.. في أوروبا كلهم يأخذون أموالا، وساركوزي ليس استثناء.. هذا أمر معتاد في أوروبا وفي الغرب وفي أميركا أيضا. هذه أمور تقوم بها الشركات والأفراد والدول كذلك، وليس ليبيا فقط.. المهم أن ساركوزي كان صديقنا، ودعانا إلى فرنسا، وبقينا أياما كثيرة عنده في باريس، سواء قبل أن يصبح رئيسا أو بعدها.. وخلال تلك الفترة دافع عن ليبيا في المحافل الدولية، وساعد معنا في حل بعض المشاكل في الدول الأفريقية التي كانت تعترض على فكرة الاتحاد الأفريقي، وكان ولاؤها ما زال لفرنسا، وقام بدور إيجابي في هذا الصدد. أما الذي حدث بعد ذلك، فهذا سؤال يجيب عنه هو.
وفي الحقيقة، بدأت المشاكل الليبية التشادية، أو بالأخرى الدعم الليبي لجانب من التشاديين، منذ أيام الملك الليبي والحركة السنوسية التي كانت تنشر دعوتها الدينية فيما كان يُعرف باسم «السودان الأوسط». لكن الأمر سيتطور ويتجاوز المسألة التشادية إلى محاولة لإعادة تركيبة القارة السوداء على أيدي الليبيين، الذين قدموا مساعدات مالية وعسكرية أغضبت الغرب، وفي القلب منه الفرنسيون، حتى أيام الرئيس فاليري جيسكار ديستان، كما يرد في حلقة منفصلة، تخص رهان ليبيا على هزيمة ديستان الذي دعمه السادات، وفوز ميتران الذي دعمه القذافي. وكان والد أحمد قذاف الدم هو الضابط المسؤول عن القطاع العسكري الليبي في جنوب البلاد. وكانت ليبيا وقتها تدعم مسلمي تشاد في الشمال، الذين يشكلون الأغلبية في البلاد.
ويواصل قذاف الدم قائلا: أذكر أن السلطان «واداي»، والد الرئيس التشادي كوكوني واداي فيما بعد (في المدة من 1979 إلى 1982)، جاء إلى سبها، وبقي عندنا في بيتنا لعدة شهور.. وكنا نقدم له الدعم والمساندة، وبعد قيام الثورة في ليبيا بقيادة القذافي، أصبحت مساعداتنا لهم تُقدم بزخم أكبر. وفي ذلك الوقت، كان الغرب يريد أن ينصِّب رئيسا مسيحيا في تشاد، هو فرنسوا تومبال باي، وكنا نقول: كيف يحكم رجل مسيحي أغلبية مسلمة؟ أضف إلى ذلك أن التقارير والمعلومات التي كانت ترد لنا كانت تشير إلى أن «تومبال باي»، أول رئيس لتشاد بعد استقلالها عام 1960، المدعوم أساسا من فرنسا، كان يتعامل مع المسلمين التشاديين باحتقار.. وأيضا لأننا في طرابلس كنا نرى أن جنوب ليبيا، على طول الحدود مع تشاد، مهدد، لأن الاستعمار الفرنسي بقي في تشاد، وأصبح الدفاع عن مصالحنا وموجهة هؤلاء، معركة واجبة.
ويضيف قذاف الدم قائلا: ولذلك قدمنا لأنصار كوكوني واداي الدعم والمساندة وغير ذلك.. خاصة عندما وجدنا أن القوات الفرنسية ما زالت موجودة داخل تشاد، رغم إعلان استقلالها منذ سنوات.. كانت موجودة وتقاتل مع الطرف الآخر، بل تقوم بمساعدة حسين حبري في انقلابه على الرئيس واداي.. هنا تدخلت القوات الليبية مجددا، وطردت حبري، ونصّبت الرئيس الحالي إدريس دبي، وهو الرئيس الذي ما زال يحكم تشاد حتى هذه الساعة.
وخلال المعارك التي ظلت مستعرة بين الليبيين والفرنسيين في تشاد، في ثمانينات القرن الماضي، التقى قذاف الدم في إحدى المناسبات الدولية مع الرئيس ميتران، وتبادلا الحديث عمن المخطئ ومن المتسبب في الاقتتال الدائر على الأراضي التشادية. ويقول موضحا: «أذكر مرة أنني التقيت الرئيس الفرنسي، فقال لي: لماذا ترسلون قواتكم إلى تشاد؟ فقلت له: رأينا الطائرات الفرنسية تطير عبر البحر من فرنسا إلى تشاد، لكي تقاتل وتموت هناك، فقلنا أكيد هناك شيء مهم في تلك المنطقة».
ويضيف أن «الرئيس الفرنسي ابتسم ثم أخذ يضحك، وقال لي: هذا منطق أيضا.. وقلت له: سيادة الرئيس، أرفعوا أيديكم عن تشاد، ونحن نرفع أيدينا عنها.. أما وجودكم في تشاد، فإما أن نتعاون لكي نقيم نظاما مستقرا للتشاديين، أو نتقاتل.. ونحن فُرضت علينا هذه المعركة».
ويقول إنه بعد ذلك جرى عقد لقاء في جزيرة كريت في البحر المتوسط بين فرنسا وليبيا، وحضر اللقاء الرئيس ميتران والعقيد القذافي.. و«جرى الاتفاق على التقسيم في تشاد، عند خط عرض 16. بحيث لا تدخل القوات الفرنسية في تشاد شمال هذا الخط، ولا تتجاوزه القوات الليبية في تشاد نحو الجنوب، واستمر هذا الاتفاق لفترة معينة، لكن للأسف جرى اختراقه، ولا أستطيع أن أجزم الآن من السبب في خرق هذا الاتفاق».
على أي حال، الليبيون لم يكونوا راضين عن الوقوف في منتصف الطريق، وكانوا يرون أن قضية الحرية لا تتجزأ: «ولا ينبغي أن نتنازل عن حقنا، وكان السؤال لدينا هو: ماذا جاء بفرنسا الاستعمارية لهذا المكان؟ كانت هذه الروح، وهذا الحماس، هو الذي يسيطر على مجريات الأمور في ذلك الوقت. وهزمنا طبعا في معارك، وانتصرنا في معارك، لكننا قمنا بواجبنا كما ينبغي».
وفي السنوات التالية من فترة الثمانينات، لم تكن الخلافات بين القذافي وفرنسا فقط، بل اتسعت لتشمل كثيرا من دول الغرب، وكان أبرزها قضية «لوكيربي» والقصف الأميركي لمقر حكم القذافي، وغيرها، مع أن الغرب لم يكن في بداية تولي القذافي الحكم ينظر إليه تلك «النظرة الشريرة». وكان محل تقدير من جانب فرنسا أيام الرئيس جورج بومبيدو، الذي حكم فرنسا من سنة 1969 حتى وفاته في 1974، وهي الفترة التي شهدت في عهده شراء ليبيا للأسلحة الفرنسية لصالح الجيش المصري الذي لم تكن سوق السلاح الغربي قد فُتحت أمامه بعد، كما جاء في شهادة قذاف الدم في هذه الحلقات.
ومنذ السنة الأولى من الثمانينات، حيث كانت الخلافات مع الغرب تتزايد يوما بعد يوم، بدأ القذافي يرسخ من التوجه الليبي ناحية الاتحاد السوفياتي (روسيا حاليا)، ويقول قذاف الدم إن معمر تحدث وقتها معلقا على الزيارة التي كان يعتزم القيام بها إلى موسكو في ذلك الوقت: «طالما أن أميركا اتجهت ناحية إسرائيل، فنحن اتجهنا إلى الاتحاد السوفياتي». ويضيف أن العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، أو روسيا فيما بعد، لم تكن بتلك القوة التي قد يظنها البعض، لأن القذافي كان يرى أنها، كأي دولة كبرى، لديها طموحات وأطماع، وفي عهد الاتحاد السوفياتي تحديدا.. «حتى علاقتنا بالرئيس السوفياتي ليونيد بريجينيف كانت شدا وجذبا».
ويقول: «الأخ معمر توجه إلى الاتحاد السوفياتي، لكنه كان ضد الشيوعية، وكان عندما يذهب إلى موسكو يشترط أن يصلي في مسجد بعينه بالعاصمة، وللأسف كان مسجدا مهجورا، ولذلك كان يُفتح له خصيصا، ويقوم العمال بأشغال النظافة حول المسجد وتجهيزه لصلاة القذافي.. كما أن معمر كان يحرص على أن يكون سفره إلى موسكو يوم خميس، بحيث يصلي الجمعة في ذلك المسجد بموسكو». ويضيف أنه «في أكثر من مرة، بحضور بريجينيف وقيادات الاتحاد السوفياتي السابق، احتج الأخ معمر داخل اجتماع رسمي للوفدين الليبي والسوفياتي، في الكرملين، على احتلال أفغانستان، وقال في أحد الاجتماعات: احتلالكم لكابل كاحتلالكم لطرابلس. كان هذا في بداية الثمانينات، وقال أيضا: أفغانستان دولة مسلمة وأنتم الآن اعتديتم عليها».
ويضيف قذاف الدم الذي كان حاضرا الاجتماع أن بريجينيف دافع طبعا عن موقف موسكو، وقال: «لو تركنا الأمر فإن الأميركان سيأتون إلى هنا ومحاصرتنا في منطقتنا».. كان حوارا طويلا عريضا. وحين حان موعد صلاة المغرب، قطع الأخ معمر الاجتماع، وذهب ليصلي، ثم رجع.. وعندما عاد بدأ يتحدث مع قيادات الحزب الشيوعي، بحضور بريجينيف، عن الإسلام، ويشرح لهم رسالة محمد (عليه الصلاة والسلام)، وكان يبدو على وجوه القادة السوفيات، وكلهم شيوعيون، أن هذه القضية لا تعنيهم.. وكنت أنا موجودا، ومع ذلك استمر حديث القذافي عن الإسلام نحو نصف ساعة من الاجتماع.
وقال القذافي خلال الاجتماع أيضا: «كيف للإنسان ألا يؤمن بوجود الله؟ إذا لم نؤمن بوجود الله، فما هو الوازع الذي يمنعنا من ارتكاب أي حماقة أو جريمة؟»، وقال كذلك: «إن كل هذه الديانات؛ المسيحية والإسلام واليهودية، جاءت من منبع واحد، وإن عدم الإيمان بالله لا يعني أن الله غير موجود، وأن الإلحاد يدل على التخلف لدى الشعوب».
ويضيف قذاف الدم أن «العقيد القذافي كان يعلم بالمقولة المنسوبة للشيوعيين، التي تقول إن الدين أفيون الشعوب، فتوقف عند هذه النقطة، وهو ينظر إلى الرئيس بريجينيف، وإلى قيادات الدولة من الحزب الشيوعي، وهنا قال القذافي: نعم.. قد تكون هناك انحرافات في تفسير بعض الأديان، لكن الأصل هو عبادة الله والإيمان به وبكتبه ورسله».
ويضيف أحمد قذاف الدم أن القذافي قام عند هذه النقطة بقراءة عدة آيات قرآنية عن فضائل الإيمان بالله، ثم قدم للرئيس بريجينيف، الذي كان جالسا في الجانب الآخر، مصحفا باللغة الروسية.
وماذا كان رد فعل الرئيس بريجينيف ومن معه من قيادات الحزب الشيوعي السوفياتي؟ يجيب قذاف الدم قائلا: «هم كانوا يحترمون الأخ معمر احتراما كبيرا، وكان يأتي للمطار كل قيادات الاتحاد السوفياتي لاستقباله. وكانوا معجبين جدا بشخصيته وجرأته ووضوحه.. لكن لم يكن لدينا مع السوفيات قواعد ولا اتفاقيات دفاع مشترك، وهذا في الحقيقة افتقدناه في الأزمة الأخيرة التي وقعت في عام 2011 وقيام حلف (ناتو)، باستهداف معسكرات الجيش الليبي وتدميرها».
وعن الأقاويل التي انتشرت قبل عدة سنوات عن أن رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، عمل مستشارا للقذافي، وعما إذا كان مستشارا حقا أم مجرد صديق»، يقول قذاف الدم: «في الغرب شيء طبيعي أن يعمل شخص لديك بعد أن يترك وظيفته.. لو تريد أن يعمل لديك الرئيس الأميركي باراك أوباما، بعد أن يترك الرئاسة، فهذا ممكن، مقابل أجر، ومن الممكن أن تستعين بأي أحد منهم بأن يلقي محاضرة أو يعمل عملا أو يمثلك في أي مكان بمقابل مادي، فهذا أمر طبيعي. بلير كان متحمسا للأخ معمر، ولم يظهر أي عداء تجاه ليبيا في الأزمة الأخيرة، في الحقيقة، عكس الآخرين».
ويضيف: «كانت تربطني علاقات خاصة وقوية أيضا مع عدد من كبار المسؤولين في أوروبا.. هناك على سبيل المثال برونو كرايسكي رئيس وزراء النمسا حتى الثمانينات، الذي يرد ذكره في هذه الحلقات بوصفه أكثر الشخصيات الأوروبية مساعدة لليبيا في تلك الفترة، وكذا فيليب غونزالس رئيس وزراء إسبانيا في التسعينات، الذي كان يقول لنا عن نفسه إنه من أصول عربية، والزعيم اليوناني باباندريو، الذي زار قذاف الدم منزله في اليونان عدة مرات، بينما كان القذافي يعتقد أن على الصداقة ليست بين الشيخ باباندريو، والشاب أحمد قذاف الدم، وإنما مع ابنه الذي يحمل الاسم نفسه؛ باباندريو الابن».
ويتذكر قذاف الدم قائلا: «باباندريو الأب كان رجل رائعا.. طبعا ربطته علاقة جيدة بالأخ معمر، وكان يعتقد أنني أزوره أحيانا لأنني صديق ابنه، بينما أنا كنت صديق الأب نفسه. وفي إحدى السنوات في القمة العربية بشرم الشيخ، عام 2003. وكان حاضرا عن أوروبا وزير خارجية اليونان جورج باباندريو، أي ابن باباندريو الكبير، وكان الابن يبدو كبيرا في السن أيضا ويشبه والده.. وفوجئت بالأخ معمر يستدعيني، وكان في لقاء خاص في الغرفة، بينما كنت في قاعة الاجتماعات، وقال لي: ها هو صاحبك باباندريو، فسلمت عليه وقلت لمعمر: ليس هذا هو صاحبي بل أبوه.. وهنا أدركت أن معمر كان يعتقد أن علاقتي بابن باباندريو، وقلت له إن صديقي هو والده.. فاستغرب، وقال كيف هذا؟ بينما ابتسم باباندريو الابن، وقال: نعم، أتذكر أن الأخ أحمد كان يزور والدي في اليونان (أي حين كان قذاف الدم في العشرينيات من العمر)».
أما في القمة العربية في سرت في عام 2010، فقد جرت ملابسات كثيرة، أهمها تلك التي تخص الاتصالات التي أجراها بشار الأسد من أجل زيارة الرئيس مبارك في ذلك الوقت، أي حين عاد مبارك للقاهرة بعد إجراء عملية جراحية في ألمانيا.. وكانت العلاقات بين مصر وسوريا ليست على ما يرام. ويقول: «أشار الأخ معمر على الرئيس بشار أن يمر على الرئيس مبارك.. وليستغل هذه الفرصة. وقال له: لماذا لا تمر على القاهرة وتقوم بزيارة الرئيس مبارك.. أنت تعلم أنه رجع من عملية جراحية، زيارتك ستكسر الجليد بين مصر وسوريا».
ويبدو أن الرئيس بشار اقتنع، فطلب أن يمر على القاهرة، وهو في طريقه من سرت إلى دمشق، وبدأت الرئاسة السورية تجري الاتصالات مع المراسم المصرية، ونظرا للحالة الصحية للرئيس مبارك جرى إخطار بشار، عن طريق المراسم المصرية، بأن يكون مروره في يوم معين على الساعة الـ11 صباحا، وأن يقوم بكذا وكذا، أي تعليمات بخصوص ترتيب الزيارة، وذلك لمراعاة الظروف الصحية للرئيس.. ويقول قذاف الدم إنه يبدو أن هذا الأسلوب استفز الرئيس بشار، ويبدو أنه قال لنفسه إنه يريد أن يأتي لزيارة مريض، فكيف يقولون له الساعة كذا واليوم كذا؟!
ويضيف أن بشار الأسد بدا عليه الاستياء، وهو ما زال في سرت، ويظهر أنه فسر الأمر في حينه بأنه عدم رغبة من جانب المصريين في زيارته، وبعد أن سافر إلى دمشق، دون أن يمر على القاهرة، تدخل القذافي مرة أخرى، وقال إن «المراسم المصرية ربما قامت بهذا، لأنها كانت تعمل وفقا لتعليمات من الطبيب الخاص بمبارك، وأن بشار عليه أن يتفهم الأمر، لأن الرئيس المصري مريض.. لكن للأسف، هذا الأمر ضاعف المشكلة، بدلا من أن يحلها، رغم أن الرئيس مبارك يكن احتراما كبير لسوريا لوقوفها مع مصر في حرب 1973، وما كان ينبغي أن يكون هناك خلافات بين البلدين».
على أي حال سافر الرئيس السوري إلى بلاده، ويقول قذاف الدم: «بعد ذلك سافرت إلى سوريا والتقيت بالرئيس بشار.. وكان ما زال مقتنعا بتفسيره الخاص لرد المراسم المصرية، وهو أن (الجانب المصري لا يريدنا أن نزور مبارك في القاهرة، ولا يريدون استقبالنا)».
ويضيف قذاف الدم: «أنا قلت له: لا.. بالعكس. حتى نحن حدث معنا الموقف نفسه، حين طلبنا زيارة مبارك، وقالوا لنا إن موعد الزيارة الساعة الـ11 صباحا، والتزمنا بالموعد.. وقلت له (لبشار) إن صحة الرئيس مبارك ما كانت تسمح، وانتهى الموضع على ذلك.. على أي حال، أحيانا تحدث خلافات بين العرب، وهي لا تستحق، علاوة على الفتن بين الدول العربية والتسريبات وعمل المخابرات والمعلومات التي تأتي من هنا وهناك».
وتعامل قذاف الدم كثيرا مع بشار الأسد، وتدخل في فترات كثيرة لإصلاح الأمور التي تضطرب أحيانا بين سوريا والأردن، أو سوريا والفلسطينيين، كما يظهر تفصيل بعضها في هذه الحلقات. ويصف قذاف الدم بشار الأسد بأنه «شاب ثوري، فاجأنا كلنا بقدرته على ممارسة العمل، وبقدرته على الإمساك بزمام الأمور.. سوريا بلد ليس نفطيا، يصدر القمح والدواء، والشعب يعيش، لكن بطبيعة الحال ليس بالشكل الذي كان يطمح إليه، لأنه كان مقيدا بأشياء كثيرة؛ تركة والده، وتراكم سنين، وحروب وصراعات، ومع ذلك، استقبل في بلاده 4 ملايين لاجئ عراقي.. استضافوهم وتقاسموا معهم رغيف الخبز. وفي لبنان، عندما طلب اللبنانيون سحب قواته من لبنان قام بسحبها.. ولديه علاقات بكل الأطراف اللبنانية».
ويزيد قائلا إن بشار الأسد «حاول أن يصحح الأخطاء التي وقعت في عهد أبيه، أو يمتص هذه الاحتقانات.. كانت لديه رغبة في التطوير وتحقيق طموحات الجيل الجديد، لكن لم تكن لديه إمكانية لتوفير ما يريده الناس، وأنت تعرف أن سقف الجماهير مرتفع دائما. وكل الناس لا تعرف كثيرا من الحقائق التي تدور في هذا البلد أو ذاك».
لكن قيل إن القذافي تواصل بالهاتف مع أطراف خارجية منها في سوريا، أثناء محاصرته في سرت وقبيل مقتله هناك في خريف 2011. هل لديك أي معلومات بهذا الشأن؟ يجيب قذاف الدم قائلا: «لا.. لا، هذا غير صحيح بالمرة.. بالتأكيد كانت هناك طرق مختلفة للتواصل، لكن مثل هذه القصص التي كنا نسمعها ما هي إلا محاولات في ذلك الوقت للتمويه، حتى لا يصل العدو لمكانه.. والغرب عجز طيلة 8 أشهر عن تحديد مقر إقامته، ولولا كل تلك الاحتياطات لما استطاع أن يبقى كل ذلك الوقت».
ويضيف: «الحقيقة أن القذافي أجرى في أواخر أيامه في حصار سرت مداخلات هاتفية مع بعض الإذاعات المحلية هناك، خاصة إذاعة سرت، ومع بعض القيادات، داخل ليبيا، لكن بالتأكيد ليس من المكان نفسه ولا بالوسيلة نفسها.. معمر رجل عسكري، وكان معه في سرت قيادات عسكرية، وهو ليس بتلك السذاجة أو البساطة، لكي يتصل من مكان محدد من هاتف الثريا مثلا، بينما كان يعلم أنه مرصود، وأن ليبيا كلها تحت المجهر».
الرئيس نيكولا ساركوزي تعاون معنا منذ كان وزيرا للداخلية..
ودافع عن ليبيا في المحافل الدولية.. وساعدنا في حل بعض المشاكل في الدول الأفريقية.. والقذافي طالبنا الاهتمام بهذا الرجل ومساعدته بكل الوسائل في الترشح
للرئاسة ليكون لنا صديقا
في قصر الإليزيه
* القذافي حوّل دفة اجتماع مع قيادات الحزب الشيوعي بحضور الرئيس السوفياتي بريجينيف للحديث عن الإسلام وضرورة الإيمان بالله.. واستغرق الأمر نصف ساعة وقال لهم إن الإلحاد يدل
على التخلف ثم تلا عدة آيات قرآنية وهو ينظر لـ«بريجينيف» قبل أن يهديه مصحفا باللغة الروسية
* معمر لم يستخدم هاتف الثريا في أيامه الأخيرة في سرت وقصة اتصاله بسوريا من هناك كانت للتمويه.. لكنه كان يجري مداخلات هاتفية مع إذاعات محلية خاصة إذاعة سرت ومع بعض القيادات داخل ليبيا.. لكن بالتأكيد لم يكن ذلك من المكان نفسه ولا بالوسيلة نفسها
* إذن مد الليبيون خيوط الود في باريس في إطار محاولة بدأت منذ 2004 للتصالح مع الغرب، فالتقطها ساركوزي، على ما يبدو، حين كان وزيرا للداخلية. ولا أحد يعرف إن كان ساركوزي هو من فعل ذلك عن عمد بوصفه رجل أمن فرنسيا، أم أن الليبيين هم الذين كانوا يتحكمون في إدارة ملف هذا الرجل الذي سيغير وجهه لأصدقائه القدامى في طرابلس، ويتحول إلى رأس حربة ضدهم في الهجوم العسكري مع «ناتو» بطائرات «رافال»، لمدة 8 أشهر.
ومنذ تسليم ليبيا لبرنامجها النووي، ووقفها لمشروع بناء صواريخ عابرة للقارات، في مطلع الألفية، ومع صعود نجم سيف الإسلام نجل القذافي، لوحظ أنه كان هناك انفتاح بين ليبيا والغرب، فهل كان انفتاحا حقيقيا؟ يقول أحمد قذاف الدم: «نحن كنا نظن أنه حقيقي، لكنه اتضح فيما بعد أنه لم يكن حقيقيا.. كنا واثقين في كلام الغرب، لكن معمر لم يكن يثق في كلامهم. معمر لم يُخدع، ولكننا نحن خُدعنا».
حسنا. وهل تولد لديك، في أي لحظة، من خلال مقابلاتك بالرئيس ساركوزي، أنه يمكن أن يأتي يوم ويتحول إلى رأس حربة ضد ليبيا، كما حدث في 2011؟ يجيب قذاف الدم بشكل قاطع قائلا: «لا.. لا.. نحن علاقتنا بساركوزي كانت منذ أن كان وزيرا للداخلية. كان رجلا متعاونا معنا، والأخ معمر قال: لا بد من الاهتمام بهذا الرجل، وواجب أن يترشح للرئاسة ليكون لنا صديق في الإليزيه. وقتها كنا نحن نبني الاتحاد الأفريقي.. كنا مقبلين على قيام الحكومة الأفريقية الواحدة، ولا بد من تحييد فرنسا. وجرى دعم ساركوزي من ليبيا بكل الوسائل».
وهل يعني ذلك أن ليبيا ساهمت في تمويل حملة ساركوزي الانتخابية في 2007 كما قيل. ويرد قذاف الدم قائلا: كل الدول تساهم في مثل هذه الحملات الانتخابية في الغرب.. في أوروبا كلهم يأخذون أموالا، وساركوزي ليس استثناء.. هذا أمر معتاد في أوروبا وفي الغرب وفي أميركا أيضا. هذه أمور تقوم بها الشركات والأفراد والدول كذلك، وليس ليبيا فقط.. المهم أن ساركوزي كان صديقنا، ودعانا إلى فرنسا، وبقينا أياما كثيرة عنده في باريس، سواء قبل أن يصبح رئيسا أو بعدها.. وخلال تلك الفترة دافع عن ليبيا في المحافل الدولية، وساعد معنا في حل بعض المشاكل في الدول الأفريقية التي كانت تعترض على فكرة الاتحاد الأفريقي، وكان ولاؤها ما زال لفرنسا، وقام بدور إيجابي في هذا الصدد. أما الذي حدث بعد ذلك، فهذا سؤال يجيب عنه هو.
وفي الحقيقة، بدأت المشاكل الليبية التشادية، أو بالأخرى الدعم الليبي لجانب من التشاديين، منذ أيام الملك الليبي والحركة السنوسية التي كانت تنشر دعوتها الدينية فيما كان يُعرف باسم «السودان الأوسط». لكن الأمر سيتطور ويتجاوز المسألة التشادية إلى محاولة لإعادة تركيبة القارة السوداء على أيدي الليبيين، الذين قدموا مساعدات مالية وعسكرية أغضبت الغرب، وفي القلب منه الفرنسيون، حتى أيام الرئيس فاليري جيسكار ديستان، كما يرد في حلقة منفصلة، تخص رهان ليبيا على هزيمة ديستان الذي دعمه السادات، وفوز ميتران الذي دعمه القذافي. وكان والد أحمد قذاف الدم هو الضابط المسؤول عن القطاع العسكري الليبي في جنوب البلاد. وكانت ليبيا وقتها تدعم مسلمي تشاد في الشمال، الذين يشكلون الأغلبية في البلاد.
ويواصل قذاف الدم قائلا: أذكر أن السلطان «واداي»، والد الرئيس التشادي كوكوني واداي فيما بعد (في المدة من 1979 إلى 1982)، جاء إلى سبها، وبقي عندنا في بيتنا لعدة شهور.. وكنا نقدم له الدعم والمساندة، وبعد قيام الثورة في ليبيا بقيادة القذافي، أصبحت مساعداتنا لهم تُقدم بزخم أكبر. وفي ذلك الوقت، كان الغرب يريد أن ينصِّب رئيسا مسيحيا في تشاد، هو فرنسوا تومبال باي، وكنا نقول: كيف يحكم رجل مسيحي أغلبية مسلمة؟ أضف إلى ذلك أن التقارير والمعلومات التي كانت ترد لنا كانت تشير إلى أن «تومبال باي»، أول رئيس لتشاد بعد استقلالها عام 1960، المدعوم أساسا من فرنسا، كان يتعامل مع المسلمين التشاديين باحتقار.. وأيضا لأننا في طرابلس كنا نرى أن جنوب ليبيا، على طول الحدود مع تشاد، مهدد، لأن الاستعمار الفرنسي بقي في تشاد، وأصبح الدفاع عن مصالحنا وموجهة هؤلاء، معركة واجبة.
ويضيف قذاف الدم قائلا: ولذلك قدمنا لأنصار كوكوني واداي الدعم والمساندة وغير ذلك.. خاصة عندما وجدنا أن القوات الفرنسية ما زالت موجودة داخل تشاد، رغم إعلان استقلالها منذ سنوات.. كانت موجودة وتقاتل مع الطرف الآخر، بل تقوم بمساعدة حسين حبري في انقلابه على الرئيس واداي.. هنا تدخلت القوات الليبية مجددا، وطردت حبري، ونصّبت الرئيس الحالي إدريس دبي، وهو الرئيس الذي ما زال يحكم تشاد حتى هذه الساعة.
وخلال المعارك التي ظلت مستعرة بين الليبيين والفرنسيين في تشاد، في ثمانينات القرن الماضي، التقى قذاف الدم في إحدى المناسبات الدولية مع الرئيس ميتران، وتبادلا الحديث عمن المخطئ ومن المتسبب في الاقتتال الدائر على الأراضي التشادية. ويقول موضحا: «أذكر مرة أنني التقيت الرئيس الفرنسي، فقال لي: لماذا ترسلون قواتكم إلى تشاد؟ فقلت له: رأينا الطائرات الفرنسية تطير عبر البحر من فرنسا إلى تشاد، لكي تقاتل وتموت هناك، فقلنا أكيد هناك شيء مهم في تلك المنطقة».
ويضيف أن «الرئيس الفرنسي ابتسم ثم أخذ يضحك، وقال لي: هذا منطق أيضا.. وقلت له: سيادة الرئيس، أرفعوا أيديكم عن تشاد، ونحن نرفع أيدينا عنها.. أما وجودكم في تشاد، فإما أن نتعاون لكي نقيم نظاما مستقرا للتشاديين، أو نتقاتل.. ونحن فُرضت علينا هذه المعركة».
ويقول إنه بعد ذلك جرى عقد لقاء في جزيرة كريت في البحر المتوسط بين فرنسا وليبيا، وحضر اللقاء الرئيس ميتران والعقيد القذافي.. و«جرى الاتفاق على التقسيم في تشاد، عند خط عرض 16. بحيث لا تدخل القوات الفرنسية في تشاد شمال هذا الخط، ولا تتجاوزه القوات الليبية في تشاد نحو الجنوب، واستمر هذا الاتفاق لفترة معينة، لكن للأسف جرى اختراقه، ولا أستطيع أن أجزم الآن من السبب في خرق هذا الاتفاق».
على أي حال، الليبيون لم يكونوا راضين عن الوقوف في منتصف الطريق، وكانوا يرون أن قضية الحرية لا تتجزأ: «ولا ينبغي أن نتنازل عن حقنا، وكان السؤال لدينا هو: ماذا جاء بفرنسا الاستعمارية لهذا المكان؟ كانت هذه الروح، وهذا الحماس، هو الذي يسيطر على مجريات الأمور في ذلك الوقت. وهزمنا طبعا في معارك، وانتصرنا في معارك، لكننا قمنا بواجبنا كما ينبغي».
وفي السنوات التالية من فترة الثمانينات، لم تكن الخلافات بين القذافي وفرنسا فقط، بل اتسعت لتشمل كثيرا من دول الغرب، وكان أبرزها قضية «لوكيربي» والقصف الأميركي لمقر حكم القذافي، وغيرها، مع أن الغرب لم يكن في بداية تولي القذافي الحكم ينظر إليه تلك «النظرة الشريرة». وكان محل تقدير من جانب فرنسا أيام الرئيس جورج بومبيدو، الذي حكم فرنسا من سنة 1969 حتى وفاته في 1974، وهي الفترة التي شهدت في عهده شراء ليبيا للأسلحة الفرنسية لصالح الجيش المصري الذي لم تكن سوق السلاح الغربي قد فُتحت أمامه بعد، كما جاء في شهادة قذاف الدم في هذه الحلقات.
ومنذ السنة الأولى من الثمانينات، حيث كانت الخلافات مع الغرب تتزايد يوما بعد يوم، بدأ القذافي يرسخ من التوجه الليبي ناحية الاتحاد السوفياتي (روسيا حاليا)، ويقول قذاف الدم إن معمر تحدث وقتها معلقا على الزيارة التي كان يعتزم القيام بها إلى موسكو في ذلك الوقت: «طالما أن أميركا اتجهت ناحية إسرائيل، فنحن اتجهنا إلى الاتحاد السوفياتي». ويضيف أن العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، أو روسيا فيما بعد، لم تكن بتلك القوة التي قد يظنها البعض، لأن القذافي كان يرى أنها، كأي دولة كبرى، لديها طموحات وأطماع، وفي عهد الاتحاد السوفياتي تحديدا.. «حتى علاقتنا بالرئيس السوفياتي ليونيد بريجينيف كانت شدا وجذبا».
ويقول: «الأخ معمر توجه إلى الاتحاد السوفياتي، لكنه كان ضد الشيوعية، وكان عندما يذهب إلى موسكو يشترط أن يصلي في مسجد بعينه بالعاصمة، وللأسف كان مسجدا مهجورا، ولذلك كان يُفتح له خصيصا، ويقوم العمال بأشغال النظافة حول المسجد وتجهيزه لصلاة القذافي.. كما أن معمر كان يحرص على أن يكون سفره إلى موسكو يوم خميس، بحيث يصلي الجمعة في ذلك المسجد بموسكو». ويضيف أنه «في أكثر من مرة، بحضور بريجينيف وقيادات الاتحاد السوفياتي السابق، احتج الأخ معمر داخل اجتماع رسمي للوفدين الليبي والسوفياتي، في الكرملين، على احتلال أفغانستان، وقال في أحد الاجتماعات: احتلالكم لكابل كاحتلالكم لطرابلس. كان هذا في بداية الثمانينات، وقال أيضا: أفغانستان دولة مسلمة وأنتم الآن اعتديتم عليها».
ويضيف قذاف الدم الذي كان حاضرا الاجتماع أن بريجينيف دافع طبعا عن موقف موسكو، وقال: «لو تركنا الأمر فإن الأميركان سيأتون إلى هنا ومحاصرتنا في منطقتنا».. كان حوارا طويلا عريضا. وحين حان موعد صلاة المغرب، قطع الأخ معمر الاجتماع، وذهب ليصلي، ثم رجع.. وعندما عاد بدأ يتحدث مع قيادات الحزب الشيوعي، بحضور بريجينيف، عن الإسلام، ويشرح لهم رسالة محمد (عليه الصلاة والسلام)، وكان يبدو على وجوه القادة السوفيات، وكلهم شيوعيون، أن هذه القضية لا تعنيهم.. وكنت أنا موجودا، ومع ذلك استمر حديث القذافي عن الإسلام نحو نصف ساعة من الاجتماع.
وقال القذافي خلال الاجتماع أيضا: «كيف للإنسان ألا يؤمن بوجود الله؟ إذا لم نؤمن بوجود الله، فما هو الوازع الذي يمنعنا من ارتكاب أي حماقة أو جريمة؟»، وقال كذلك: «إن كل هذه الديانات؛ المسيحية والإسلام واليهودية، جاءت من منبع واحد، وإن عدم الإيمان بالله لا يعني أن الله غير موجود، وأن الإلحاد يدل على التخلف لدى الشعوب».
ويضيف قذاف الدم أن «العقيد القذافي كان يعلم بالمقولة المنسوبة للشيوعيين، التي تقول إن الدين أفيون الشعوب، فتوقف عند هذه النقطة، وهو ينظر إلى الرئيس بريجينيف، وإلى قيادات الدولة من الحزب الشيوعي، وهنا قال القذافي: نعم.. قد تكون هناك انحرافات في تفسير بعض الأديان، لكن الأصل هو عبادة الله والإيمان به وبكتبه ورسله».
ويضيف أحمد قذاف الدم أن القذافي قام عند هذه النقطة بقراءة عدة آيات قرآنية عن فضائل الإيمان بالله، ثم قدم للرئيس بريجينيف، الذي كان جالسا في الجانب الآخر، مصحفا باللغة الروسية.
وماذا كان رد فعل الرئيس بريجينيف ومن معه من قيادات الحزب الشيوعي السوفياتي؟ يجيب قذاف الدم قائلا: «هم كانوا يحترمون الأخ معمر احتراما كبيرا، وكان يأتي للمطار كل قيادات الاتحاد السوفياتي لاستقباله. وكانوا معجبين جدا بشخصيته وجرأته ووضوحه.. لكن لم يكن لدينا مع السوفيات قواعد ولا اتفاقيات دفاع مشترك، وهذا في الحقيقة افتقدناه في الأزمة الأخيرة التي وقعت في عام 2011 وقيام حلف (ناتو)، باستهداف معسكرات الجيش الليبي وتدميرها».
وعن الأقاويل التي انتشرت قبل عدة سنوات عن أن رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، عمل مستشارا للقذافي، وعما إذا كان مستشارا حقا أم مجرد صديق»، يقول قذاف الدم: «في الغرب شيء طبيعي أن يعمل شخص لديك بعد أن يترك وظيفته.. لو تريد أن يعمل لديك الرئيس الأميركي باراك أوباما، بعد أن يترك الرئاسة، فهذا ممكن، مقابل أجر، ومن الممكن أن تستعين بأي أحد منهم بأن يلقي محاضرة أو يعمل عملا أو يمثلك في أي مكان بمقابل مادي، فهذا أمر طبيعي. بلير كان متحمسا للأخ معمر، ولم يظهر أي عداء تجاه ليبيا في الأزمة الأخيرة، في الحقيقة، عكس الآخرين».
ويضيف: «كانت تربطني علاقات خاصة وقوية أيضا مع عدد من كبار المسؤولين في أوروبا.. هناك على سبيل المثال برونو كرايسكي رئيس وزراء النمسا حتى الثمانينات، الذي يرد ذكره في هذه الحلقات بوصفه أكثر الشخصيات الأوروبية مساعدة لليبيا في تلك الفترة، وكذا فيليب غونزالس رئيس وزراء إسبانيا في التسعينات، الذي كان يقول لنا عن نفسه إنه من أصول عربية، والزعيم اليوناني باباندريو، الذي زار قذاف الدم منزله في اليونان عدة مرات، بينما كان القذافي يعتقد أن على الصداقة ليست بين الشيخ باباندريو، والشاب أحمد قذاف الدم، وإنما مع ابنه الذي يحمل الاسم نفسه؛ باباندريو الابن».
ويتذكر قذاف الدم قائلا: «باباندريو الأب كان رجل رائعا.. طبعا ربطته علاقة جيدة بالأخ معمر، وكان يعتقد أنني أزوره أحيانا لأنني صديق ابنه، بينما أنا كنت صديق الأب نفسه. وفي إحدى السنوات في القمة العربية بشرم الشيخ، عام 2003. وكان حاضرا عن أوروبا وزير خارجية اليونان جورج باباندريو، أي ابن باباندريو الكبير، وكان الابن يبدو كبيرا في السن أيضا ويشبه والده.. وفوجئت بالأخ معمر يستدعيني، وكان في لقاء خاص في الغرفة، بينما كنت في قاعة الاجتماعات، وقال لي: ها هو صاحبك باباندريو، فسلمت عليه وقلت لمعمر: ليس هذا هو صاحبي بل أبوه.. وهنا أدركت أن معمر كان يعتقد أن علاقتي بابن باباندريو، وقلت له إن صديقي هو والده.. فاستغرب، وقال كيف هذا؟ بينما ابتسم باباندريو الابن، وقال: نعم، أتذكر أن الأخ أحمد كان يزور والدي في اليونان (أي حين كان قذاف الدم في العشرينيات من العمر)».
أما في القمة العربية في سرت في عام 2010، فقد جرت ملابسات كثيرة، أهمها تلك التي تخص الاتصالات التي أجراها بشار الأسد من أجل زيارة الرئيس مبارك في ذلك الوقت، أي حين عاد مبارك للقاهرة بعد إجراء عملية جراحية في ألمانيا.. وكانت العلاقات بين مصر وسوريا ليست على ما يرام. ويقول: «أشار الأخ معمر على الرئيس بشار أن يمر على الرئيس مبارك.. وليستغل هذه الفرصة. وقال له: لماذا لا تمر على القاهرة وتقوم بزيارة الرئيس مبارك.. أنت تعلم أنه رجع من عملية جراحية، زيارتك ستكسر الجليد بين مصر وسوريا».
ويبدو أن الرئيس بشار اقتنع، فطلب أن يمر على القاهرة، وهو في طريقه من سرت إلى دمشق، وبدأت الرئاسة السورية تجري الاتصالات مع المراسم المصرية، ونظرا للحالة الصحية للرئيس مبارك جرى إخطار بشار، عن طريق المراسم المصرية، بأن يكون مروره في يوم معين على الساعة الـ11 صباحا، وأن يقوم بكذا وكذا، أي تعليمات بخصوص ترتيب الزيارة، وذلك لمراعاة الظروف الصحية للرئيس.. ويقول قذاف الدم إنه يبدو أن هذا الأسلوب استفز الرئيس بشار، ويبدو أنه قال لنفسه إنه يريد أن يأتي لزيارة مريض، فكيف يقولون له الساعة كذا واليوم كذا؟!
ويضيف أن بشار الأسد بدا عليه الاستياء، وهو ما زال في سرت، ويظهر أنه فسر الأمر في حينه بأنه عدم رغبة من جانب المصريين في زيارته، وبعد أن سافر إلى دمشق، دون أن يمر على القاهرة، تدخل القذافي مرة أخرى، وقال إن «المراسم المصرية ربما قامت بهذا، لأنها كانت تعمل وفقا لتعليمات من الطبيب الخاص بمبارك، وأن بشار عليه أن يتفهم الأمر، لأن الرئيس المصري مريض.. لكن للأسف، هذا الأمر ضاعف المشكلة، بدلا من أن يحلها، رغم أن الرئيس مبارك يكن احتراما كبير لسوريا لوقوفها مع مصر في حرب 1973، وما كان ينبغي أن يكون هناك خلافات بين البلدين».
على أي حال سافر الرئيس السوري إلى بلاده، ويقول قذاف الدم: «بعد ذلك سافرت إلى سوريا والتقيت بالرئيس بشار.. وكان ما زال مقتنعا بتفسيره الخاص لرد المراسم المصرية، وهو أن (الجانب المصري لا يريدنا أن نزور مبارك في القاهرة، ولا يريدون استقبالنا)».
ويضيف قذاف الدم: «أنا قلت له: لا.. بالعكس. حتى نحن حدث معنا الموقف نفسه، حين طلبنا زيارة مبارك، وقالوا لنا إن موعد الزيارة الساعة الـ11 صباحا، والتزمنا بالموعد.. وقلت له (لبشار) إن صحة الرئيس مبارك ما كانت تسمح، وانتهى الموضع على ذلك.. على أي حال، أحيانا تحدث خلافات بين العرب، وهي لا تستحق، علاوة على الفتن بين الدول العربية والتسريبات وعمل المخابرات والمعلومات التي تأتي من هنا وهناك».
وتعامل قذاف الدم كثيرا مع بشار الأسد، وتدخل في فترات كثيرة لإصلاح الأمور التي تضطرب أحيانا بين سوريا والأردن، أو سوريا والفلسطينيين، كما يظهر تفصيل بعضها في هذه الحلقات. ويصف قذاف الدم بشار الأسد بأنه «شاب ثوري، فاجأنا كلنا بقدرته على ممارسة العمل، وبقدرته على الإمساك بزمام الأمور.. سوريا بلد ليس نفطيا، يصدر القمح والدواء، والشعب يعيش، لكن بطبيعة الحال ليس بالشكل الذي كان يطمح إليه، لأنه كان مقيدا بأشياء كثيرة؛ تركة والده، وتراكم سنين، وحروب وصراعات، ومع ذلك، استقبل في بلاده 4 ملايين لاجئ عراقي.. استضافوهم وتقاسموا معهم رغيف الخبز. وفي لبنان، عندما طلب اللبنانيون سحب قواته من لبنان قام بسحبها.. ولديه علاقات بكل الأطراف اللبنانية».
ويزيد قائلا إن بشار الأسد «حاول أن يصحح الأخطاء التي وقعت في عهد أبيه، أو يمتص هذه الاحتقانات.. كانت لديه رغبة في التطوير وتحقيق طموحات الجيل الجديد، لكن لم تكن لديه إمكانية لتوفير ما يريده الناس، وأنت تعرف أن سقف الجماهير مرتفع دائما. وكل الناس لا تعرف كثيرا من الحقائق التي تدور في هذا البلد أو ذاك».
لكن قيل إن القذافي تواصل بالهاتف مع أطراف خارجية منها في سوريا، أثناء محاصرته في سرت وقبيل مقتله هناك في خريف 2011. هل لديك أي معلومات بهذا الشأن؟ يجيب قذاف الدم قائلا: «لا.. لا، هذا غير صحيح بالمرة.. بالتأكيد كانت هناك طرق مختلفة للتواصل، لكن مثل هذه القصص التي كنا نسمعها ما هي إلا محاولات في ذلك الوقت للتمويه، حتى لا يصل العدو لمكانه.. والغرب عجز طيلة 8 أشهر عن تحديد مقر إقامته، ولولا كل تلك الاحتياطات لما استطاع أن يبقى كل ذلك الوقت».
ويضيف: «الحقيقة أن القذافي أجرى في أواخر أيامه في حصار سرت مداخلات هاتفية مع بعض الإذاعات المحلية هناك، خاصة إذاعة سرت، ومع بعض القيادات، داخل ليبيا، لكن بالتأكيد ليس من المكان نفسه ولا بالوسيلة نفسها.. معمر رجل عسكري، وكان معه في سرت قيادات عسكرية، وهو ليس بتلك السذاجة أو البساطة، لكي يتصل من مكان محدد من هاتف الثريا مثلا، بينما كان يعلم أنه مرصود، وأن ليبيا كلها تحت المجهر».
الشابي-
- الجنس :
عدد المساهمات : 10326
نقاط : 34775
تاريخ التسجيل : 29/04/2014
. :
. :
. :
مواضيع مماثلة
» الشرق الأوسط: أحمد قذاف الدم يروي نصف قرن مع معمر القذافي /الحلقة (2)
» الشرق الأوسط: أحمد قذاف الدم يروي نصف قرن مع معمر القذافي
» أحمد-قذاف-الدم-لـ-«الشرق-الأوسط»-ليبيا-في-خطر-والأسلحة-تتدفق-رغم-الحظر
» قذاف الدم لـ {الشرق الأوسط}: قيادات عسكرية متخصصة انضمت للجيش الليبي
» خير الكلام ماقل ودل "أحمد قذاف الدم: التاريخ سيشهد أن القذافي كان رجلا عظيما"
» الشرق الأوسط: أحمد قذاف الدم يروي نصف قرن مع معمر القذافي
» أحمد-قذاف-الدم-لـ-«الشرق-الأوسط»-ليبيا-في-خطر-والأسلحة-تتدفق-رغم-الحظر
» قذاف الدم لـ {الشرق الأوسط}: قيادات عسكرية متخصصة انضمت للجيش الليبي
» خير الكلام ماقل ودل "أحمد قذاف الدم: التاريخ سيشهد أن القذافي كان رجلا عظيما"
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 20:46 من طرف علي عبد الله البسامي
» ترياق الهَذَر
السبت 9 نوفمبر - 0:32 من طرف علي عبد الله البسامي
» تحية لفرسان لبنان
الجمعة 1 نوفمبر - 23:43 من طرف علي عبد الله البسامي
» أشجان عربية
الجمعة 25 أكتوبر - 22:54 من طرف علي عبد الله البسامي
» فلنحم وجودنا
الإثنين 21 أكتوبر - 22:13 من طرف علي عبد الله البسامي
» وداع الأبطال
الأحد 20 أكتوبر - 10:19 من طرف علي عبد الله البسامي
» بين الدين والاخلاق
الجمعة 18 أكتوبر - 10:36 من طرف علي عبد الله البسامي
» حول مفهوم الحضارة
الجمعة 18 أكتوبر - 10:33 من طرف علي عبد الله البسامي
» فيم تكمن قيمة الانسان ؟؟؟
الجمعة 18 أكتوبر - 10:30 من طرف علي عبد الله البسامي
» حزب المجد
الخميس 17 أكتوبر - 23:24 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الإقدام
السبت 12 أكتوبر - 13:59 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الى امّتنا
الخميس 10 أكتوبر - 16:49 من طرف علي عبد الله البسامي
» حقيقة الثقافة
الجمعة 20 سبتمبر - 14:56 من طرف علي عبد الله البسامي
» وجعٌ على وجع
الإثنين 16 سبتمبر - 17:28 من طرف علي عبد الله البسامي
» تعاظمت الجراح
الأحد 15 سبتمبر - 17:57 من طرف علي عبد الله البسامي
» بجلوا الابطال
الجمعة 13 سبتمبر - 17:37 من طرف علي عبد الله البسامي
» موقف عز وشرف
الثلاثاء 20 أغسطس - 0:19 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الوفاق
الخميس 8 أغسطس - 18:27 من طرف علي عبد الله البسامي
» رثاء الشهيد اسماعيل هنية
الأربعاء 31 يوليو - 18:37 من طرف علي عبد الله البسامي
» هدهد الجنوب
الجمعة 26 يوليو - 20:41 من طرف علي عبد الله البسامي