التدرج فى الدعوة
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
التدرج فى الدعوة
المبحث الثالث
العناية بذوي المكانة
ذوو المكانة هم الكبراء وهم السادة والأشراف من الناس (1) وهم الملأ الذين أشار الله تعالى إليهم في غير ما موضع من كتابه الكريم .
وقد حث الله الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم لهذا الصنف على الرفق واللين والتلطف والتدرج في بيان الحق لهم ، قال تعالى مخبرا عن موسى وهارون عليهما السلام : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }{ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (2) فأمرهما الله بدعوة فرعون بكلام رقيق لين سهل ، ليكون أوقع في النفوس ، وأبلغ وأنجح (3) ولما في ذلك من التأثير في الإجابة (4) ذلك أن الكلام الذي فيه شدة وخشونة بادئ ذي بدء من أعظم أسباب النفرة ، وعدم الاستجابة ، والتصلب في الكفر (5) لا سيما إذا كان المدعو من الكبراء الذين تغلب عليهم صفة الكبر والتجبّر (6) .
_________
(1) انظر : القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن 3 / 243 .
(2) سورة طه ، الآيتان : 43 ، 44 .
(3) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم 3 / 153 .
(4) انظر : الشوكاني ، فتح القدير 3 / 366 .
(5) انظر : الفخر الرازي ، التفسير الكبير 22 / 58 ، وانظر : الشوكاني ، فتح القدير 3 / 366 .
(6) انظر : الفخر الرازي ، التفسير الكبير 22 / 58 .
وبعد تعرفه صلى الله عليه وسلم على المدعوين ، كان يولي ذوي المكانة منهم عناية خاصة ، بل لقد كان يولي كبراء قومه عناية خاصة ، لمكانتهم في قومهم ، ومما يدل على ذلك ما رواه ابن كثير : " اجتمع علية من أشراف قريش . . . فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا ، وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بدو ، وكان حريصًا يحب رشدهم ، ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم " (1) .
وهكذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب ، وهو كبير قريش ، حيث كان يقول له : " . . . وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ، ودعوته إلى الهدى ، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه " (2) .
وكذلك كان موقفه صلى الله عليه وسلم مع عتبة بن ربيعة ، وهو أحد سادات قريش ، فقد أظهر صلى الله عليه وسلم من العناية به والتلطف في دعوته ما جعله يعود بغير الوجه الذي جاء به ، ومما يدل على مكانته في قريش قولهم : صبا أبو الوليد لتصبون قريش كلها (3) .
_________
(1) ابن كثير ، السيرة النبوية ، 1 / 478 ، 479 .
(2) ابن هشام ، السيرة النبوية 1 / 229 .
(3) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن 15 / 339 .
بل كان يبدأ بعرض الدعوة على ذوي المكانة من الأشراف والسادة ، يقول ابن إسحاق : " لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم . . . فدعاهم إلى الله " (1) .
ثم لما عاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة كان لا يسمع بقادم يقدمها من ذوي المكانة والشرف إلا تصدى له فدعاه إلى الله ، وعرض عليه ما عنده (2) ثم بدأ يعرض دعوته على وفود العرب في موسم الحج وأسواق العرب ، وكانت مناسبات هامة للالتقاء بذوي المكانة من رؤساء العرب ، وكان يصطحب معه نسابة قريش أبا بكر الصديق رضي الله عنه (3) ليقوم بمهمة تعريفه بذوي المكانة والشرف من هؤلاء الوفود فيبدءوهم بعرض الدعوة عليهم (4) .
_________
(1) ابن هشام ، السيرة النبوية ، 2 / 47 ، 48 .
(2) انظر : ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 52 .
(3) انظر : ابن كثير ، السيرة النبوية ، 1 / 437 .
(4) انظر : د . زيد بن عبد الكريم الزيد ، وقفات دعوية في رحلة سفير الدعوة الأول مصعب بن عمير إلى المدينة ص 36 .
و " مصعب بن عمير " وهو أحد تلامذته صلى الله عليه وسلم ومبعوثه إلى يثرب ليقوم بمهمة الدعوة والتعليم ، هذا الداعية أظهر عناية عظيمة بذوي المكانة من الأشراف والسادة في المجتمع المدني ، فقد استفاد من " أسعد بن زرارة " رضي الله عنه وهو من ذوي المكانة في قومه حيث نزل ضيفًا عليه ، وأخذ يصطحبه في جولاته الدعوية (1) ليقوم بمهمة تعريفه بذوي المكانة والشرف ليوليهم عناية خاصة في الدعوة ، فحينما دخلا حائط بني عبد الأشهل ، وأقبل عليهما أسيد بن حضير لزجرهما ، " فلما رآه " أسعد بن زرارة " قال لمصعب بن عمير : هذا سيد قومه قد جاءك ، فاصدق الله فيه " (2) .
وحينما أسلم " أسيد بن حضير " وانضم إلى سلك الدعوة قال لهما مبينًا مكانة " سعد بن معاذ " في قومه : " إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ، وسأرسله إليكما الآن ، سعد بن معاذ " (3) فلما أقبل سعد قال أسعد بن زرارة لمصعب : " أي مصعب ، جاءك والله سيد من وراءه من قومه ، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان " (4) .
فكان لهذه العناية بهذين الرجلين الأثر البالغ حيث أسلم بإسلامهما جميع دور بني الأشهل (5) .
_________
(1) انظر : المرجع نفسه ص 27 ، 28 .
(2) ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 59 .
(3) ابن هشام ، المرجع السابق 2 / 59 .
(4) ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 59 .
(5) انظر : ابن هشام ، المرجع السابق 2 / 60 .
ويبين صلى الله عليه وسلم الحكمة في العناية بذوي المكانة بقوله : « لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن اليهود » (1) .
يقول ابن حجر : " والذي يظهر أنهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في اليهود ومن عداهم كان تبعًا لهم " (2) .
فهؤلاء العشرة الذين هم من علماء اليهود ورؤسائهم والذين يقتدي بهم اليهود ، لو أسلموا لقادوا سائرهم إلى الإسلام (3) ، وتأمل موقفه صلى الله عليه وسلم مع سيد أهل اليمامة ثمامة بن أثال رضي الله عنه يتبين لك مدى عنايته صلى الله عليه وسلم بذوي المكانة من الأشراف والسادة الذين يرجى بإسلامهم إسلام أتباعهم .
يقول ابن حجر مبينًا فائدة جليلة في عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بثمامة : " وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام ، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه " (4) .
وفي هذا الصدد يعلّق النووي قائلا : " هذا من تأليف القلوب ، وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير " (5) .
_________
(1) صحيح البخاري ، كتاب فضائل الصحابة ، باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة (ك 66 ح 3725) 3 / 1434 .
(2) ابن حجر ، فتح الباري 7 ص 695 .
(3) انظر : أحمد البنا ، الفتح الرباني 1 / 102 .
(4) ابن حجر ، فتح الباري 8 / 421 .
(5) النووي ، شرح صحيح مسلم 12 / 89 .
وقد « صلى عليه الصلاة والسلام على رأس المنافقين عبد الله بن أبي ، واستغفر له إلى أن نهي عن ذلك بقوله تعالى : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ }» (1) .
فما السر في عنايته صلى الله عليه وسلم بهذا الرجل ، وهو من أكبر أعداء الدعوة في عهدها المدني ؟
يشير ابن حجر إلى السر في ذلك بقوله : " قال الخطابي : إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين ، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح ، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم " (2) .
ولو تأملت رسائله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الإسلام لوجدتها تصدر لمن لهم المكانة والتعظيم من قبل أقوامهم : « من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم الروم » (3) والمراد من تعظمه الروم ، وتقدمه للرياسة عليها (4) .
فدل على عنايته صلى الله عليه وسلم بذوي المكانة والرياسة وتقديمهم في الدعوة والمخاطبة ، ويشير ابن تيمية إلى نكتة في هذا الشأن فيقول : " وطالب الرئاسة - ولو بالباطل - ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلا ، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقّا " (5) .
_________
(1) سورة التوبة ، الآية : 84 .
(2) ابن حجر : فتح الباري 9 / 235 .
(3) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء (68 ح 4278) 4 / 1657 .
(4) ابن حجر ، فتح الباري 9 / 86 .
(5) ابن تيمية ، مجموع فتاوى 10 / 599 .
ومما يدل على عنايته صلى الله عليه وسلم بهذا الصنف من المدعوين أنه كان يجزل العطاء لبعض ضعفاء الإيمان ممن لهم المكانة في أقوامهم ، ويعلل ذلك بقوله : « إنه رأس قومه ، فأنا أتألفهم به » (1) .
وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم في حنين ، وقد دانت له العرب فقد أجزل العطاء لبعض ذوي المكانة من الأشراف والسادة ، فقد روى البخاري - رحمه الله - عن عبد الله بن مسعود قال : « لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسًا في القسمة : فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى عيينة مثل ذلك ، وأعطى أناسًا من أشراف العرب ، فآثرهم يومئذ في القسمة » . . . " (2) .
فآثر صلى الله عليه وسلم هؤلاء السادة بهذا العطاء ترغيبًا لهم ولأقوامهم في الإسلام ، لما لهم من مكانة وسيادة تجعل أقوامهم تبعا لهم (3) .
_________
(1) انظر : ابن حجر : فتح الباري 1 / 144 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب فرض الخمس ، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه (ك 61 ح 2981) 3 / 1148 .
(3) انظر : أحمد البنا ، الفتح الرباني 9 / 62 .
أولًا : دعوة غير المسلمين :
لم تشغله صلى الله عليه وسلم العناية بذوي المكانة عن دعوة الآخرين فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو كل من لقيه إلى الإسلام قال تعالى : { الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } (1) ، وقال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } (2) .
يقول القرطبي : " قال قتادة يعني قريشا " كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم (3) .
_________
(1) سورة إبراهيم ، الآيتان : 1 ، 2 .
(2) سورة السجدة ، الآية : 3 .
(3) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن 13 / 85 .
وقيل : العرب قاطبة الذين لم يزالوا خالين من الكتب عادمين للرسل ، قد عمتهم الجهالة وغمرتهم الضلالة (1) فكان صلى الله عليه وسلم في مبدأ بعثته يدعو كل من لقيه إلى الإسلام فقط ، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « لما نزلت { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } . . . جعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم قبائل قبائل » (2) . وروى مسلم في حديث إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه وفيه : " فقلت إني متبعك قال : « إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني » (3) ، فاكتفى منه صلى الله عليه وسلم بالإسلام دون المتابعة ، وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم مع أبي ذر رضي الله عنه حيث قال له : « ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري » (4) ، فكان صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة الزمنية المتقدمة من البعثة يدعو إلى الإسلام فقط فكان لا يسمع بأحد قادم مكة إلا تصدّى له ودعاه إلى الإسلام (5) وحين قدم سويد بن الصامت إلى مكة حاجا أو معتمرا تصدى له صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام (6) وكذلك فعل مع وفد بني عبد الأشهل حينما قدموا يلتمسون الحلف من قريش على الخزرج فجاءهم صلى
_________
(1) انظر : السعدي ، تيسير الكريم الرحمن 6 / 334 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام أو الجاهلية (ك 65ح 3335) 3 / 1298 .
(3) مسلم ، صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين وحصرها ، باب إسلام عمرو بن عبسة (ك 6 ح 832) 1 / 569 .
(4) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الفضائل ، باب إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه (ك 66 ح 3648) 3 / 1401 .
(5) انظر : ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 52 .
(6) انظر : ابن هشام المرجع السابق 2 / 53 .
الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام (1) .
واستمر صلى الله عليه وسلم بعد هجرته يدعو إلى الإسلام فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « بينا نحن في المسجد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " انطلقوا إلى يهود " فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال : " يا معشر يهود أسلموا تسلموا " فقالوا : بلغت يا أبا القاسم ، قال : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك أريد أسلموا تسلموا . . . » (2) ، يقول ابن حجر : " وجه ذلك أنه بلَّغ اليهود ودعاهم إلى الإسلام والاعتصام به " (3) ، وكان بعد هجرته صلى الله عليه وسلم يشترط على كل من يسلم الهجرة إلى المدينة فما الحكمة في هذا الاشتراط ؟
_________
(1) انظر : ابن هشام المرجع السابق 2 / 54 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب قوله تعالى : « وكان الإنسان أكثر شيء جدلا » (ك 99 ح 6916 ) 6 / 2674 ، 2675 .
(3) ابن حجر ، فتح الباري 15 / 253 .
يشير ابن حجر إلى الحكمة في ذلك فيقول : " كانت الهجرة فرضا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع " (1) فدل على أن الهجرة كانت عينًا على كل من أسلم قبل الفتح لنصرة الإسلام وإكثار سواد المسلمين (2) فلما فتح الله مكة ودخل الناس في دين الله أفواجًا سقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنية (3) قال صلى الله عليه وسلم : « لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية . . . » (4) أي : لا هجرة إلى المدينة ، أما أصل الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فهذا قائم إلى أن يرِث الله الأرض ومن عليها (5) .
_________
(1) ابن حجر : فتح الباري 6 / 122 .
(2) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 6 / 120 .
(3) ابن حجر ، المرجع السابق 6 / 121 .
(4) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الجهاد ، باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية ، (60 ح 2670) 3 / 1040 .
(5) ابن حجر ، فتح الباري 8 / 635 .
ثانيا : دعوة المسلمين :
كما كان صلى الله عليه وسلم يدعو طيلة العهد المكي إلى الإسلام فقد كان طيلة هذا العهد يربي من يدخل في الإسلام التربية الإيمانية الحقة ، فقد استطاع صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة أن يربي عددًا من أصحابه ويكون منهم جماعة متميزة بعقيدتها وسلوكها وهدفها في الحياة ، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويطهرهم من أخلاق الجاهلية وعاداتها بترسيخ الإيمان في نفوسهم تدريجيا كلما نزل شيء من القرآن قال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (1) ، وقال سبحانه : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (2) وقد بينت كتب السيرة اهتمامه صلى الله عليه وسلم البليغ بتربية من استجاب للدعوة والعمل على تزكيتهم وتربيتهم على هدى الإسلام ، لبناء قاعدة إسلامية صلبة للدولة المسلمة ، وذلك عن طريق تعليمهم دينهم وتطبيق الإسلام في حياتهم
_________
(1) سورة الجمعة ، الآية : 2 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 164 .
، وتعميق معاني الإخوة فيما بينهم وحثهم على تحمل الأذى ، والصبر في سبيل الدعوة (1) يدل على ذلك ما رواه البخاري عن خباب بن الأرت قال : « شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو الله لنا ؟ قال : " كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له الأرض فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه . . . » الحديث (2) فدل الحديث على عنايته صلى الله عليه وسلم بتعليمهم وتأديبهم وإعدادهم (3) .
فكان من خريجي هذه المدرسة النبوية العظيمة من قام بواجب الدعوة والتبليغ خير قيام أمثال جعفر بن أبي طالب ومصعب بن عمير وغيرهما رضي الله تعالى عنهم أجمعين .
_________
(1) انظر : محمد أبو الفتح البيانوني ، المدخل إلى علم الدعوة ص83 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام (ك 65ح 3416) 3 / 1322 .
(3) انظر : علي بن جابر الحربي ، منهج الدعوة النبوية في المرحلة المكية ، ص 399 .
وبعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم تنقطع هذه التربية فاتخذ صلى الله عليه وسلم المسجد مقرا لدعوته حيث يلتقي أصحابه يتلو عليهم آيات الله ويعلمهم ما شرع الله لهم من الشرائع ويحثهم على التواصي بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1) مهتديا بقوله سبحانه : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (2) .
وكان عليه الصلاة والسلام يتخولهم بالموعظة خشية السآمة يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابن مسعود قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا » (3) ، ويبين ابن حجر فائدة مهمة في هذا الحديث فيقول : " وفيه رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وحسن التوصل إلى تعليمهم وتفهيمهم ليأخذوا عنه بنشاط لا عن ضجر ولا ملل " (4) .
_________
(1) انظر : محمد الشديد ، منهج القرآن في التربية ، ص 11 .
(2) سورة الحج ، الآية : 41 .
(3) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الدعوات ، باب الموعظة ساعة بعد ساعة (ك 83 ح 6048) 5 / 2355 .
(4) ابن حجر ، فتح الباري 12 / 532 .
الفصل الخامس
الحكمة من التدرج في الدعوة
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث :
المبحث الأول : تهيئة النفوس للسماع
المبحث الثاني : قبول النفوس للحق
المبحث الثالث : ترسيخ الإسلام في النفوس
تمهيد
بعد أن بينت في الفصول السابقة تدرجه صلى الله عليه وسلم في الدعوة باعتبار الموضوع توحيدًا وشريعة ، وباعتبار الوسيلة والأسلوب ، وباعتبار المدعوين ، بقي أن أبين الحكمة من هذا التدرج الحكيم ، وهذا ما سوف أتناوله بإذن الله في هذا الفصل ، وقد قسمته إلى ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : تهيئة النفوس للسماع .
المبحث الثاني : قبول النفوس للحق .
المبحث الثالث : ترسيخ الإسلام في النفوس .
وفيما يلي التفصيل في هذه المباحث .
المبحث الأول
تهيئة النفوس للسماع
بالتدرج في الدعوة تتهيأ النفوس للسماع ، فالحجة لا تقوم على المدعوين إلا بالسماع (1) ولذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإجارة المستجير من المشركين لأن إجارته تهيئة لنفسه للسماع ، فقال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } (2) .
_________
(1) انظر : ابن تيمية ، التفسير الكبير 6 / 33 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 6 .
فأوجب سبحانه كف القتال عمن أظهر الرغبة في سماع كلام الله (1) . بل جعل الغاية من إجارته إسماعه كلام الله ليكون كلام الله أول ما يقرع سمعه فيقع من نفسه موقع التمكن ، وبذلك تقوم عليه الحجة (2) .
وإذا فلا ضير من إعطاء المشركين الفرصة لكي تتهيأ نفوسهم لسماع القرآن ومعرفة هذا الدين ، لعل قلوبهم تتفتح وتتلقى وتستجيب ، فتزكو تلك القلوب ، وتطيب تلك النفوس .
وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك فقد كان يهيئ نفوس المشركين للسماع ، فحينما جاءه عتبة بن ربيعة لمفاوضته صلى الله عليه وسلم هيأ نفسه للسماع أولا بقوله : « قد فرغت يا أبا الوليد . . " قال : نعم ، فقال : " يابن أخي فاسمع » (3)
ولا يخفى على أحد ما في هذه الملاطفة والتكنية من تهيئة للنفس للسماع ، وحين اتكأ عتبة على يديه وقال : أسمع ، أسمعه صلى الله عليه وسلم صدرًا من سورة فصلت (4)
ونجد مصعب بن عمير وهو مبعوثه صلى الله عليه وسلم للدعوة ، يبدأ بتهيئة نفوس مدعويه للسماع ، فحينما جاءه كل من زعيمي بني عبد الأشهل ، أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما كان يبدؤهما بعرض السماع أولا فيقول : " أو تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كف عنك ما تكرهه " (5) .
_________
(1) انظر : محمد رشيد رضا ، تفسير المنار 10 / 177 .
(2) انظر : المرجع السابق 10 / 118 .
(3) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن 15 / 338 .
(4) انظر : المرجع السابق 5 / 338 ، 339 .
(5) ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 59 .
وبهذه الملاطفة والعرض المنصف هيأ نفسيهما للسماع ، فلما سمعا أسلما ، وأسلم أقوامهما (1) .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يهيئ نفوس أصحابه للسماع فقد روى البخاري عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع : « استنصت الناس " فقال : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض » (2)
فدل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم استنصت أصحابه قبل أن يعظهم ليهيئ نفوسهم لسماع كلامه ، ثم حفظه ثم العمل به ، ونشره ، وقد ذكر ابن حجر حكمة عظيمة بين فيها التدرج في تلقي العلم ، وأن أوله الاستماع فقال : " قال سفيان الثوري وغيره : أول العلم الاستماع ، ثم الإنصات ، ثم الحفظ ، ثم العمل ، ثم النشر " (3) .
_________
(1) انظر : المرجع السابق 2 / 60 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب العلم ، باب الإنصات للعلماء (ك 3 / ح 121) 1 / 56 .
(3) ابن حجر ، فتح الباري 1 / 294 .
ومما كان يهيئ به صلى الله عليه وسلم نفوس أصحابه للسماع والفهم أنه عليه الصلاة والسلام كان يبدءوهم بالسؤال أولا ثم يلقي عليهم المسألة ، يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال : « يا أيها الناس أي يوم هذا ؟ " قالوا : يوم حرام ، قال : " فأي بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام ، قال : " فأي شهر هذا ؟ " قالوا : شهر حرام ، قال : " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا » . . . " (1) .
فكرر صلى الله عليه وسلم السؤال ثلاث مرات ليكون أبلغ في فهمهم وإقبالهم على كلامه ، يشير إلى ذلك ابن حجر رحمه الله بقوله : " قال القرطبي : سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم وليقبلوا عليه بكليتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه ، ولذلك قال بعد هذا : فإن دماءكم . . . إلخ ، مبالغة في تحريم هذه الأشياء انتهى " (2) .
_________
(1) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب : الخطبة أيام منى (ك 32ح 1652) 2 / 619 .
(2) ابن حجر ، فتح الباري 1 / 214 .
ويقول صاحب تيسير العزيز الحميد في شرح هذا الحديث مبينا الحكمة في البدء بالسؤال : " وأخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم ، فإن الإنسان إذا سئل عن مسألة لا يعلمها ثم أخبر بها بعد الامتحان بالسؤال عنها فإن ذلك أوعى لفهمها وحفظها ، وهذا من حسن إرشاده وتعليمه صلى الله عليه وسلم " (1) .
وتأمل موقفه صلى الله عليه وسلم مع ثمامة بن أثال رضي الله عنه حيث أبقاه مربوطًا في سارية في المسجد ثلاثة أيام ، وقد أكرمه صلى الله عليه وسلم غاية الإكرام ثم منّ عليه ، فكان لهذا التعامل أثره في تهيئة نفسه لسماع القرآن ، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة تعامله مع أصحابه ، فانقلب بغضه للرسول صلى الله عليه وسلم حبًّا في ساعة واحدة (2) .
ومما كان يهيئ به صلى الله عليه وسلم النفوس للسماع الترحيب بالقادم والتلطف معه وتأنيسه والثناء عليه كما فعل صلى الله عليه وسلم مع وفد عبد القيس ، حيث أثنى عليهم وأخبر أنهم خير أهل المشرق ، فاستقبلهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبشرهم بذلك ، ثم بعد وصولهم رحب بهم صلى الله عليه وسلم (3) حيث قال لهم : « مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى » (4) .
_________
(1) الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ، تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص 65 .
(2) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 8 / 421 .
(3) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 1 / 178 ، 179 .
(4) سبق تخريجه ، انظر : ص 108 من هذا البحث .
فدل ذلك على أن الاهتمام بالمدعوين مدخل طبيعي إلى نفوسهم (1) ، وله أثره في تلقي النفوس للحق وقبوله (2) ، وبالتدرج في الدعوة تظهر أهمية مراعاة العوامل النفسية لدى المدعوين (3) ، وبهذا الاهتمام وتلك المراعاة تتهيأ نفوسهم لسماع الحق ومن ثَمَّ قبوله .
_________
(1) انظر : د . سيد محمد ساداتي الشنقيطي ، وظيفة الأخبار في سورة الأنعام ، ص 459 .
(2) انظر : المرجع السابق ص 252 .
(3) انظر : المرجع السابق ص 257 ، 258 .
العناية بذوي المكانة
ذوو المكانة هم الكبراء وهم السادة والأشراف من الناس (1) وهم الملأ الذين أشار الله تعالى إليهم في غير ما موضع من كتابه الكريم .
وقد حث الله الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم لهذا الصنف على الرفق واللين والتلطف والتدرج في بيان الحق لهم ، قال تعالى مخبرا عن موسى وهارون عليهما السلام : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }{ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (2) فأمرهما الله بدعوة فرعون بكلام رقيق لين سهل ، ليكون أوقع في النفوس ، وأبلغ وأنجح (3) ولما في ذلك من التأثير في الإجابة (4) ذلك أن الكلام الذي فيه شدة وخشونة بادئ ذي بدء من أعظم أسباب النفرة ، وعدم الاستجابة ، والتصلب في الكفر (5) لا سيما إذا كان المدعو من الكبراء الذين تغلب عليهم صفة الكبر والتجبّر (6) .
_________
(1) انظر : القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن 3 / 243 .
(2) سورة طه ، الآيتان : 43 ، 44 .
(3) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم 3 / 153 .
(4) انظر : الشوكاني ، فتح القدير 3 / 366 .
(5) انظر : الفخر الرازي ، التفسير الكبير 22 / 58 ، وانظر : الشوكاني ، فتح القدير 3 / 366 .
(6) انظر : الفخر الرازي ، التفسير الكبير 22 / 58 .
وبعد تعرفه صلى الله عليه وسلم على المدعوين ، كان يولي ذوي المكانة منهم عناية خاصة ، بل لقد كان يولي كبراء قومه عناية خاصة ، لمكانتهم في قومهم ، ومما يدل على ذلك ما رواه ابن كثير : " اجتمع علية من أشراف قريش . . . فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا ، وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بدو ، وكان حريصًا يحب رشدهم ، ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم " (1) .
وهكذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب ، وهو كبير قريش ، حيث كان يقول له : " . . . وأنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة ، ودعوته إلى الهدى ، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه " (2) .
وكذلك كان موقفه صلى الله عليه وسلم مع عتبة بن ربيعة ، وهو أحد سادات قريش ، فقد أظهر صلى الله عليه وسلم من العناية به والتلطف في دعوته ما جعله يعود بغير الوجه الذي جاء به ، ومما يدل على مكانته في قريش قولهم : صبا أبو الوليد لتصبون قريش كلها (3) .
_________
(1) ابن كثير ، السيرة النبوية ، 1 / 478 ، 479 .
(2) ابن هشام ، السيرة النبوية 1 / 229 .
(3) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن 15 / 339 .
بل كان يبدأ بعرض الدعوة على ذوي المكانة من الأشراف والسادة ، يقول ابن إسحاق : " لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم . . . فدعاهم إلى الله " (1) .
ثم لما عاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة كان لا يسمع بقادم يقدمها من ذوي المكانة والشرف إلا تصدى له فدعاه إلى الله ، وعرض عليه ما عنده (2) ثم بدأ يعرض دعوته على وفود العرب في موسم الحج وأسواق العرب ، وكانت مناسبات هامة للالتقاء بذوي المكانة من رؤساء العرب ، وكان يصطحب معه نسابة قريش أبا بكر الصديق رضي الله عنه (3) ليقوم بمهمة تعريفه بذوي المكانة والشرف من هؤلاء الوفود فيبدءوهم بعرض الدعوة عليهم (4) .
_________
(1) ابن هشام ، السيرة النبوية ، 2 / 47 ، 48 .
(2) انظر : ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 52 .
(3) انظر : ابن كثير ، السيرة النبوية ، 1 / 437 .
(4) انظر : د . زيد بن عبد الكريم الزيد ، وقفات دعوية في رحلة سفير الدعوة الأول مصعب بن عمير إلى المدينة ص 36 .
و " مصعب بن عمير " وهو أحد تلامذته صلى الله عليه وسلم ومبعوثه إلى يثرب ليقوم بمهمة الدعوة والتعليم ، هذا الداعية أظهر عناية عظيمة بذوي المكانة من الأشراف والسادة في المجتمع المدني ، فقد استفاد من " أسعد بن زرارة " رضي الله عنه وهو من ذوي المكانة في قومه حيث نزل ضيفًا عليه ، وأخذ يصطحبه في جولاته الدعوية (1) ليقوم بمهمة تعريفه بذوي المكانة والشرف ليوليهم عناية خاصة في الدعوة ، فحينما دخلا حائط بني عبد الأشهل ، وأقبل عليهما أسيد بن حضير لزجرهما ، " فلما رآه " أسعد بن زرارة " قال لمصعب بن عمير : هذا سيد قومه قد جاءك ، فاصدق الله فيه " (2) .
وحينما أسلم " أسيد بن حضير " وانضم إلى سلك الدعوة قال لهما مبينًا مكانة " سعد بن معاذ " في قومه : " إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ، وسأرسله إليكما الآن ، سعد بن معاذ " (3) فلما أقبل سعد قال أسعد بن زرارة لمصعب : " أي مصعب ، جاءك والله سيد من وراءه من قومه ، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان " (4) .
فكان لهذه العناية بهذين الرجلين الأثر البالغ حيث أسلم بإسلامهما جميع دور بني الأشهل (5) .
_________
(1) انظر : المرجع نفسه ص 27 ، 28 .
(2) ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 59 .
(3) ابن هشام ، المرجع السابق 2 / 59 .
(4) ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 59 .
(5) انظر : ابن هشام ، المرجع السابق 2 / 60 .
ويبين صلى الله عليه وسلم الحكمة في العناية بذوي المكانة بقوله : « لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن اليهود » (1) .
يقول ابن حجر : " والذي يظهر أنهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في اليهود ومن عداهم كان تبعًا لهم " (2) .
فهؤلاء العشرة الذين هم من علماء اليهود ورؤسائهم والذين يقتدي بهم اليهود ، لو أسلموا لقادوا سائرهم إلى الإسلام (3) ، وتأمل موقفه صلى الله عليه وسلم مع سيد أهل اليمامة ثمامة بن أثال رضي الله عنه يتبين لك مدى عنايته صلى الله عليه وسلم بذوي المكانة من الأشراف والسادة الذين يرجى بإسلامهم إسلام أتباعهم .
يقول ابن حجر مبينًا فائدة جليلة في عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بثمامة : " وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام ، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه " (4) .
وفي هذا الصدد يعلّق النووي قائلا : " هذا من تأليف القلوب ، وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير " (5) .
_________
(1) صحيح البخاري ، كتاب فضائل الصحابة ، باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة (ك 66 ح 3725) 3 / 1434 .
(2) ابن حجر ، فتح الباري 7 ص 695 .
(3) انظر : أحمد البنا ، الفتح الرباني 1 / 102 .
(4) ابن حجر ، فتح الباري 8 / 421 .
(5) النووي ، شرح صحيح مسلم 12 / 89 .
وقد « صلى عليه الصلاة والسلام على رأس المنافقين عبد الله بن أبي ، واستغفر له إلى أن نهي عن ذلك بقوله تعالى : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ }» (1) .
فما السر في عنايته صلى الله عليه وسلم بهذا الرجل ، وهو من أكبر أعداء الدعوة في عهدها المدني ؟
يشير ابن حجر إلى السر في ذلك بقوله : " قال الخطابي : إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين ، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح ، ولتألف قومه من الخزرج لرياسته فيهم " (2) .
ولو تأملت رسائله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الإسلام لوجدتها تصدر لمن لهم المكانة والتعظيم من قبل أقوامهم : « من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم الروم » (3) والمراد من تعظمه الروم ، وتقدمه للرياسة عليها (4) .
فدل على عنايته صلى الله عليه وسلم بذوي المكانة والرياسة وتقديمهم في الدعوة والمخاطبة ، ويشير ابن تيمية إلى نكتة في هذا الشأن فيقول : " وطالب الرئاسة - ولو بالباطل - ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلا ، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقّا " (5) .
_________
(1) سورة التوبة ، الآية : 84 .
(2) ابن حجر : فتح الباري 9 / 235 .
(3) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء (68 ح 4278) 4 / 1657 .
(4) ابن حجر ، فتح الباري 9 / 86 .
(5) ابن تيمية ، مجموع فتاوى 10 / 599 .
ومما يدل على عنايته صلى الله عليه وسلم بهذا الصنف من المدعوين أنه كان يجزل العطاء لبعض ضعفاء الإيمان ممن لهم المكانة في أقوامهم ، ويعلل ذلك بقوله : « إنه رأس قومه ، فأنا أتألفهم به » (1) .
وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم في حنين ، وقد دانت له العرب فقد أجزل العطاء لبعض ذوي المكانة من الأشراف والسادة ، فقد روى البخاري - رحمه الله - عن عبد الله بن مسعود قال : « لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسًا في القسمة : فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى عيينة مثل ذلك ، وأعطى أناسًا من أشراف العرب ، فآثرهم يومئذ في القسمة » . . . " (2) .
فآثر صلى الله عليه وسلم هؤلاء السادة بهذا العطاء ترغيبًا لهم ولأقوامهم في الإسلام ، لما لهم من مكانة وسيادة تجعل أقوامهم تبعا لهم (3) .
_________
(1) انظر : ابن حجر : فتح الباري 1 / 144 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب فرض الخمس ، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه (ك 61 ح 2981) 3 / 1148 .
(3) انظر : أحمد البنا ، الفتح الرباني 9 / 62 .
أولًا : دعوة غير المسلمين :
لم تشغله صلى الله عليه وسلم العناية بذوي المكانة عن دعوة الآخرين فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو كل من لقيه إلى الإسلام قال تعالى : { الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } (1) ، وقال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } (2) .
يقول القرطبي : " قال قتادة يعني قريشا " كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم (3) .
_________
(1) سورة إبراهيم ، الآيتان : 1 ، 2 .
(2) سورة السجدة ، الآية : 3 .
(3) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن 13 / 85 .
وقيل : العرب قاطبة الذين لم يزالوا خالين من الكتب عادمين للرسل ، قد عمتهم الجهالة وغمرتهم الضلالة (1) فكان صلى الله عليه وسلم في مبدأ بعثته يدعو كل من لقيه إلى الإسلام فقط ، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « لما نزلت { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } . . . جعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم قبائل قبائل » (2) . وروى مسلم في حديث إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه وفيه : " فقلت إني متبعك قال : « إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني » (3) ، فاكتفى منه صلى الله عليه وسلم بالإسلام دون المتابعة ، وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم مع أبي ذر رضي الله عنه حيث قال له : « ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري » (4) ، فكان صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة الزمنية المتقدمة من البعثة يدعو إلى الإسلام فقط فكان لا يسمع بأحد قادم مكة إلا تصدّى له ودعاه إلى الإسلام (5) وحين قدم سويد بن الصامت إلى مكة حاجا أو معتمرا تصدى له صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام (6) وكذلك فعل مع وفد بني عبد الأشهل حينما قدموا يلتمسون الحلف من قريش على الخزرج فجاءهم صلى
_________
(1) انظر : السعدي ، تيسير الكريم الرحمن 6 / 334 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب من انتسب إلى آبائه في الإسلام أو الجاهلية (ك 65ح 3335) 3 / 1298 .
(3) مسلم ، صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين وحصرها ، باب إسلام عمرو بن عبسة (ك 6 ح 832) 1 / 569 .
(4) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الفضائل ، باب إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه (ك 66 ح 3648) 3 / 1401 .
(5) انظر : ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 52 .
(6) انظر : ابن هشام المرجع السابق 2 / 53 .
الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام (1) .
واستمر صلى الله عليه وسلم بعد هجرته يدعو إلى الإسلام فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « بينا نحن في المسجد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " انطلقوا إلى يهود " فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال : " يا معشر يهود أسلموا تسلموا " فقالوا : بلغت يا أبا القاسم ، قال : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك أريد أسلموا تسلموا . . . » (2) ، يقول ابن حجر : " وجه ذلك أنه بلَّغ اليهود ودعاهم إلى الإسلام والاعتصام به " (3) ، وكان بعد هجرته صلى الله عليه وسلم يشترط على كل من يسلم الهجرة إلى المدينة فما الحكمة في هذا الاشتراط ؟
_________
(1) انظر : ابن هشام المرجع السابق 2 / 54 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب قوله تعالى : « وكان الإنسان أكثر شيء جدلا » (ك 99 ح 6916 ) 6 / 2674 ، 2675 .
(3) ابن حجر ، فتح الباري 15 / 253 .
يشير ابن حجر إلى الحكمة في ذلك فيقول : " كانت الهجرة فرضا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع " (1) فدل على أن الهجرة كانت عينًا على كل من أسلم قبل الفتح لنصرة الإسلام وإكثار سواد المسلمين (2) فلما فتح الله مكة ودخل الناس في دين الله أفواجًا سقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنية (3) قال صلى الله عليه وسلم : « لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية . . . » (4) أي : لا هجرة إلى المدينة ، أما أصل الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فهذا قائم إلى أن يرِث الله الأرض ومن عليها (5) .
_________
(1) ابن حجر : فتح الباري 6 / 122 .
(2) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 6 / 120 .
(3) ابن حجر ، المرجع السابق 6 / 121 .
(4) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الجهاد ، باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية ، (60 ح 2670) 3 / 1040 .
(5) ابن حجر ، فتح الباري 8 / 635 .
ثانيا : دعوة المسلمين :
كما كان صلى الله عليه وسلم يدعو طيلة العهد المكي إلى الإسلام فقد كان طيلة هذا العهد يربي من يدخل في الإسلام التربية الإيمانية الحقة ، فقد استطاع صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة أن يربي عددًا من أصحابه ويكون منهم جماعة متميزة بعقيدتها وسلوكها وهدفها في الحياة ، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويطهرهم من أخلاق الجاهلية وعاداتها بترسيخ الإيمان في نفوسهم تدريجيا كلما نزل شيء من القرآن قال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (1) ، وقال سبحانه : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (2) وقد بينت كتب السيرة اهتمامه صلى الله عليه وسلم البليغ بتربية من استجاب للدعوة والعمل على تزكيتهم وتربيتهم على هدى الإسلام ، لبناء قاعدة إسلامية صلبة للدولة المسلمة ، وذلك عن طريق تعليمهم دينهم وتطبيق الإسلام في حياتهم
_________
(1) سورة الجمعة ، الآية : 2 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 164 .
، وتعميق معاني الإخوة فيما بينهم وحثهم على تحمل الأذى ، والصبر في سبيل الدعوة (1) يدل على ذلك ما رواه البخاري عن خباب بن الأرت قال : « شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو الله لنا ؟ قال : " كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له الأرض فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه . . . » الحديث (2) فدل الحديث على عنايته صلى الله عليه وسلم بتعليمهم وتأديبهم وإعدادهم (3) .
فكان من خريجي هذه المدرسة النبوية العظيمة من قام بواجب الدعوة والتبليغ خير قيام أمثال جعفر بن أبي طالب ومصعب بن عمير وغيرهما رضي الله تعالى عنهم أجمعين .
_________
(1) انظر : محمد أبو الفتح البيانوني ، المدخل إلى علم الدعوة ص83 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام (ك 65ح 3416) 3 / 1322 .
(3) انظر : علي بن جابر الحربي ، منهج الدعوة النبوية في المرحلة المكية ، ص 399 .
وبعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم تنقطع هذه التربية فاتخذ صلى الله عليه وسلم المسجد مقرا لدعوته حيث يلتقي أصحابه يتلو عليهم آيات الله ويعلمهم ما شرع الله لهم من الشرائع ويحثهم على التواصي بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1) مهتديا بقوله سبحانه : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } (2) .
وكان عليه الصلاة والسلام يتخولهم بالموعظة خشية السآمة يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابن مسعود قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا » (3) ، ويبين ابن حجر فائدة مهمة في هذا الحديث فيقول : " وفيه رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وحسن التوصل إلى تعليمهم وتفهيمهم ليأخذوا عنه بنشاط لا عن ضجر ولا ملل " (4) .
_________
(1) انظر : محمد الشديد ، منهج القرآن في التربية ، ص 11 .
(2) سورة الحج ، الآية : 41 .
(3) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الدعوات ، باب الموعظة ساعة بعد ساعة (ك 83 ح 6048) 5 / 2355 .
(4) ابن حجر ، فتح الباري 12 / 532 .
الفصل الخامس
الحكمة من التدرج في الدعوة
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث :
المبحث الأول : تهيئة النفوس للسماع
المبحث الثاني : قبول النفوس للحق
المبحث الثالث : ترسيخ الإسلام في النفوس
تمهيد
بعد أن بينت في الفصول السابقة تدرجه صلى الله عليه وسلم في الدعوة باعتبار الموضوع توحيدًا وشريعة ، وباعتبار الوسيلة والأسلوب ، وباعتبار المدعوين ، بقي أن أبين الحكمة من هذا التدرج الحكيم ، وهذا ما سوف أتناوله بإذن الله في هذا الفصل ، وقد قسمته إلى ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : تهيئة النفوس للسماع .
المبحث الثاني : قبول النفوس للحق .
المبحث الثالث : ترسيخ الإسلام في النفوس .
وفيما يلي التفصيل في هذه المباحث .
المبحث الأول
تهيئة النفوس للسماع
بالتدرج في الدعوة تتهيأ النفوس للسماع ، فالحجة لا تقوم على المدعوين إلا بالسماع (1) ولذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإجارة المستجير من المشركين لأن إجارته تهيئة لنفسه للسماع ، فقال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } (2) .
_________
(1) انظر : ابن تيمية ، التفسير الكبير 6 / 33 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 6 .
فأوجب سبحانه كف القتال عمن أظهر الرغبة في سماع كلام الله (1) . بل جعل الغاية من إجارته إسماعه كلام الله ليكون كلام الله أول ما يقرع سمعه فيقع من نفسه موقع التمكن ، وبذلك تقوم عليه الحجة (2) .
وإذا فلا ضير من إعطاء المشركين الفرصة لكي تتهيأ نفوسهم لسماع القرآن ومعرفة هذا الدين ، لعل قلوبهم تتفتح وتتلقى وتستجيب ، فتزكو تلك القلوب ، وتطيب تلك النفوس .
وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك فقد كان يهيئ نفوس المشركين للسماع ، فحينما جاءه عتبة بن ربيعة لمفاوضته صلى الله عليه وسلم هيأ نفسه للسماع أولا بقوله : « قد فرغت يا أبا الوليد . . " قال : نعم ، فقال : " يابن أخي فاسمع » (3)
ولا يخفى على أحد ما في هذه الملاطفة والتكنية من تهيئة للنفس للسماع ، وحين اتكأ عتبة على يديه وقال : أسمع ، أسمعه صلى الله عليه وسلم صدرًا من سورة فصلت (4)
ونجد مصعب بن عمير وهو مبعوثه صلى الله عليه وسلم للدعوة ، يبدأ بتهيئة نفوس مدعويه للسماع ، فحينما جاءه كل من زعيمي بني عبد الأشهل ، أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما كان يبدؤهما بعرض السماع أولا فيقول : " أو تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كف عنك ما تكرهه " (5) .
_________
(1) انظر : محمد رشيد رضا ، تفسير المنار 10 / 177 .
(2) انظر : المرجع السابق 10 / 118 .
(3) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن 15 / 338 .
(4) انظر : المرجع السابق 5 / 338 ، 339 .
(5) ابن هشام ، السيرة النبوية 2 / 59 .
وبهذه الملاطفة والعرض المنصف هيأ نفسيهما للسماع ، فلما سمعا أسلما ، وأسلم أقوامهما (1) .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يهيئ نفوس أصحابه للسماع فقد روى البخاري عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع : « استنصت الناس " فقال : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض » (2)
فدل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم استنصت أصحابه قبل أن يعظهم ليهيئ نفوسهم لسماع كلامه ، ثم حفظه ثم العمل به ، ونشره ، وقد ذكر ابن حجر حكمة عظيمة بين فيها التدرج في تلقي العلم ، وأن أوله الاستماع فقال : " قال سفيان الثوري وغيره : أول العلم الاستماع ، ثم الإنصات ، ثم الحفظ ، ثم العمل ، ثم النشر " (3) .
_________
(1) انظر : المرجع السابق 2 / 60 .
(2) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب العلم ، باب الإنصات للعلماء (ك 3 / ح 121) 1 / 56 .
(3) ابن حجر ، فتح الباري 1 / 294 .
ومما كان يهيئ به صلى الله عليه وسلم نفوس أصحابه للسماع والفهم أنه عليه الصلاة والسلام كان يبدءوهم بالسؤال أولا ثم يلقي عليهم المسألة ، يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال : « يا أيها الناس أي يوم هذا ؟ " قالوا : يوم حرام ، قال : " فأي بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام ، قال : " فأي شهر هذا ؟ " قالوا : شهر حرام ، قال : " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا » . . . " (1) .
فكرر صلى الله عليه وسلم السؤال ثلاث مرات ليكون أبلغ في فهمهم وإقبالهم على كلامه ، يشير إلى ذلك ابن حجر رحمه الله بقوله : " قال القرطبي : سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم وليقبلوا عليه بكليتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه ، ولذلك قال بعد هذا : فإن دماءكم . . . إلخ ، مبالغة في تحريم هذه الأشياء انتهى " (2) .
_________
(1) البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب : الخطبة أيام منى (ك 32ح 1652) 2 / 619 .
(2) ابن حجر ، فتح الباري 1 / 214 .
ويقول صاحب تيسير العزيز الحميد في شرح هذا الحديث مبينا الحكمة في البدء بالسؤال : " وأخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم ، فإن الإنسان إذا سئل عن مسألة لا يعلمها ثم أخبر بها بعد الامتحان بالسؤال عنها فإن ذلك أوعى لفهمها وحفظها ، وهذا من حسن إرشاده وتعليمه صلى الله عليه وسلم " (1) .
وتأمل موقفه صلى الله عليه وسلم مع ثمامة بن أثال رضي الله عنه حيث أبقاه مربوطًا في سارية في المسجد ثلاثة أيام ، وقد أكرمه صلى الله عليه وسلم غاية الإكرام ثم منّ عليه ، فكان لهذا التعامل أثره في تهيئة نفسه لسماع القرآن ، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة تعامله مع أصحابه ، فانقلب بغضه للرسول صلى الله عليه وسلم حبًّا في ساعة واحدة (2) .
ومما كان يهيئ به صلى الله عليه وسلم النفوس للسماع الترحيب بالقادم والتلطف معه وتأنيسه والثناء عليه كما فعل صلى الله عليه وسلم مع وفد عبد القيس ، حيث أثنى عليهم وأخبر أنهم خير أهل المشرق ، فاستقبلهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبشرهم بذلك ، ثم بعد وصولهم رحب بهم صلى الله عليه وسلم (3) حيث قال لهم : « مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى » (4) .
_________
(1) الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ، تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص 65 .
(2) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 8 / 421 .
(3) انظر : ابن حجر ، فتح الباري 1 / 178 ، 179 .
(4) سبق تخريجه ، انظر : ص 108 من هذا البحث .
فدل ذلك على أن الاهتمام بالمدعوين مدخل طبيعي إلى نفوسهم (1) ، وله أثره في تلقي النفوس للحق وقبوله (2) ، وبالتدرج في الدعوة تظهر أهمية مراعاة العوامل النفسية لدى المدعوين (3) ، وبهذا الاهتمام وتلك المراعاة تتهيأ نفوسهم لسماع الحق ومن ثَمَّ قبوله .
_________
(1) انظر : د . سيد محمد ساداتي الشنقيطي ، وظيفة الأخبار في سورة الأنعام ، ص 459 .
(2) انظر : المرجع السابق ص 252 .
(3) انظر : المرجع السابق ص 257 ، 258 .
ابو عمر المصرى-
- الجنس :
عدد المساهمات : 51
نقاط : 9864
تاريخ التسجيل : 27/06/2011
رد: التدرج فى الدعوة
رحم الله والديك وجعله في ميزان حسناتك
ـــــــ-ــــــ-ـــــ-ـــــ-ــــــ-ـــــــ-ـــــ-ــــ-ــــــ-ــــــ-ـــــــ-ـــــــ-ـــــــ-
التوقيع
إني تذكــــرت والذكـــــرى مؤرقــة ******* مجداً تليداً بأيدينا أضعنـــــــــــــاه
ويح العروبة كان الكون مسرحهــا ******* فأصبحت تتوارى في زوايـــــــــــاه
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد ******* تجده كالطير مقصوصاً جناحـــــاه
كم صرّفتنا يدٌ كنا نُصرّفهــــــــــا ******* وبات يحكمنا شعب ملكنــــــــــاه
يا من رأى عمر تكســــــوه بردته ******* والزيت أدم له والكوخ مـــــــــــأواه
يهتز كسرى على كرسيــــه فرقاً ******* من بأسه وملوك الروم تخشــــاه
سل المعاني عنا إننا عــــــــــرب ******* شعارنا المجد يهوانا ونهــــــــــواه
استرشد الغرب بالماضي فأرشـده ******* ونحن كان لنا ماض نسينـــــــــاه
إنّا مشينا وراء الغرب نقتبس مـــن ******* ضيائه فأصابتنا شظــايــــــــــــــاه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب ******* بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهوا
Zico-
- الجنس :
عدد المساهمات : 10514
نقاط : 20925
تاريخ التسجيل : 28/05/2011
. :
. :
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أمس في 20:46 من طرف علي عبد الله البسامي
» ترياق الهَذَر
السبت 9 نوفمبر - 0:32 من طرف علي عبد الله البسامي
» تحية لفرسان لبنان
الجمعة 1 نوفمبر - 23:43 من طرف علي عبد الله البسامي
» أشجان عربية
الجمعة 25 أكتوبر - 22:54 من طرف علي عبد الله البسامي
» فلنحم وجودنا
الإثنين 21 أكتوبر - 22:13 من طرف علي عبد الله البسامي
» وداع الأبطال
الأحد 20 أكتوبر - 10:19 من طرف علي عبد الله البسامي
» بين الدين والاخلاق
الجمعة 18 أكتوبر - 10:36 من طرف علي عبد الله البسامي
» حول مفهوم الحضارة
الجمعة 18 أكتوبر - 10:33 من طرف علي عبد الله البسامي
» فيم تكمن قيمة الانسان ؟؟؟
الجمعة 18 أكتوبر - 10:30 من طرف علي عبد الله البسامي
» حزب المجد
الخميس 17 أكتوبر - 23:24 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الإقدام
السبت 12 أكتوبر - 13:59 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الى امّتنا
الخميس 10 أكتوبر - 16:49 من طرف علي عبد الله البسامي
» حقيقة الثقافة
الجمعة 20 سبتمبر - 14:56 من طرف علي عبد الله البسامي
» وجعٌ على وجع
الإثنين 16 سبتمبر - 17:28 من طرف علي عبد الله البسامي
» تعاظمت الجراح
الأحد 15 سبتمبر - 17:57 من طرف علي عبد الله البسامي
» بجلوا الابطال
الجمعة 13 سبتمبر - 17:37 من طرف علي عبد الله البسامي
» موقف عز وشرف
الثلاثاء 20 أغسطس - 0:19 من طرف علي عبد الله البسامي
» نداء الوفاق
الخميس 8 أغسطس - 18:27 من طرف علي عبد الله البسامي
» رثاء الشهيد اسماعيل هنية
الأربعاء 31 يوليو - 18:37 من طرف علي عبد الله البسامي
» هدهد الجنوب
الجمعة 26 يوليو - 20:41 من طرف علي عبد الله البسامي