ذاكرة بلا جسد

انتهت الاختبارات المدرسية ،ففرح بشدة للإجازة الصيفية ،والتي كم طال انتظارها بكل لهفة وشوق ..ذاك الحلم الذي ظل يرواد مخيلته منذ عدة أشهر ،وكيف لا ..والسهر سيحلو ا مع الأهل والأصدقاء ،حيث النزهات ،والرحلات الترفيهية ،والسباحة في ماء البحر ،ومشاهدة المباريات العربية أو الأجنبية ،لن يقول له أحد بعد اليوم :اقرأ أو لاتسهر خارج البيت ،أو نم مبكرا ،إنها حالة من التغيير السريع كالخريف عندما يبعثر أوراق أشجار الجوافة ،أو التين.. تلك الأشجار التي تقبض على أوراقها بكل رقة واحتضان.. لكن تلك الأوراق تأبى الالتصاق لذلك ،مع أول رياح خريفية نطير متخفية بين ذرات غبارها ، كعصفور حبيس تحرر من قفصه الموحش.
وعلى عجالة راح يفكر ماذا سيفعل الآن مع أول نسمة حالمة بالحرية، أخذ يجهز برنامجه الترفيهي بسرعة في ذاكرته ،وليس عبر الورق ،حتى يستمتع بكل لحظة قبل فوات الأوان ،والعودة من جديد للثورة المدرسية بما تحملها من طوابير الصباح اليومية ،والحصص الإضافية ،والتحضيرات وعمل الواجبات المنزلية.. رغم ذكائه ،وحبه الجارف للعلم والتعلم ،ورغم تفوقه طوال سنوات دراسته إلا أنه يعشق الإجازات الصيفية ،الكل من حوله من الذين يعرفونه عن قرب يشهد له بثقافته ،ولباقته ،وظرفه ،ودماثة خلقه ،ولأنه كان يذوب في قراءة الروايات طربا كالبلابل فوق الأغصان ،وكالفراشات حين تهفو فوق الأزهار ،أخذ روايته التي كان يخفيها عن عائلته في مكتبه الصغير ،المقفل .. لأنه كان كثيرا ما يسمع انتقاداتهم تجاه كلمات تلك الرواية لما تحمله كلماتها من جرأة ،وخدش للحياء ،ووصف كاتبة الرواية ا لمخزي لأدق العلاقات البشرية ..حمل روايته خلسة بيده وقد أخفاها تحت طائرته الورقية ، كم كان ينتظر لحظات الفراغ لقراءتها ،فهو من الذين يعشقون المعرفة بكل فضولية ، وحب الحوار ،صعد إلى سطح بيته العلوي بكل لهفة وشوق وأطلق العنان لخيطان طائرته التي حلقت في الأجواء فداعبتها نسمات هواء حانية،وتمايلت يمينا ويسارا ، بكل دلال ،وكبرياء ، وفجأة انقطع الخيط ،حاول بسرعة أن يمسك به لكنه لم يستطع ،كانت عيناه تراقب الطائرة ،وكأنها تلقي النظرة الأخيرة عليها، ،وما أن وصل إلى حافة السطح العاري الأسوار كما تتعرى الأكاذيب والوشايات ،وكما تتعرى أهداف الثورات المذيفة ،فقد توازنه فسقط صريعا يتخبط في دمائه ،ولتسقط معه كل أحلامه وطموحاته ،وذكرياته ،لكنه رغم سقوطه من عل ٍ إلا أنه كان يقبض بيدية على رواية لم يقراها تلطخت أوراقها بدمائه لتحجب نصف عنوانها "ذاكرة "،ولم يبقى سوى النصف الآخر "الجسد"!!

منقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ول

شكرا لمرورك اخي فهد